ويشهد عليه أنّ الفحص واجب عقلي، لما عرفت من أنّ العقل هو الذييحكم بعدم جريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبل الفحص(1)، مع أنّوجوب المقدّمة ـ بناءً عليه ـ وجوب شرعي، وإن كانت الملازمة بينه وبينوجوب ذيها عقليّة.
ولا فرق في حكم العقل بلزوم الفحص بين الواجبات المطلقة والمشروطة.
إنّ المولى إذا قال لعبده: «يجب عليك الكون على السطح في الليل» وعلمالعبد بأنّه لو لم ينصب السلّم قبل دخول الليل لم يتمكّن من نصبه بعده، فهليحكم العقل بأنّه معذور في ترك المأمور به رأساً، لعدم وجوب نصب السلّم
عليه قبل دخول الليل، وعدم قدرته على المأمور به بعده، لأجل عجزه عنمقدّمته حينئذٍ؟!
أو يحكم بأنّه إذا علم بأصل التكليف بالكون على السطح في الليل، وبأنّهيسلب عنه القدرة عليه لو لم يأت بمقدّمته قبلاً، يجب عليه تحصيلها قبل فعليّةوجوب ذيها.
فما اشتهر بينهم من عدم إمكان اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل اتّصاف ذيالمقدّمة به باطل عقلاً، ولا نلتزم بما التزم به المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ الإرادةالمتعلّقة بالمقدّمة تترشّح من الإرادة المتعلّقة بذيها، ووجوبها يترشّح منوجوبه، فإنّ ما ذكرناه من المثال أقوى شاهد على خلافه.
فلو كان الفحص مقدّمة لكان واجباً قبل فعليّة وجوب الواجب المشروطالمحتمل فيما إذا أدّى تركه إلى سلب القدرة عليه في ظرفه.
كلام المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك رحمهماالله في المسألة
والتجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك للتخلّص عن الإشكالإلىالالتزام بأنّ الفحص والتفقّه والتعلّم واجب نفسي تهيّئي، ويترتّب استحقاقالعقوبة عليه نفسه.
توضيح ذلك: أنّ الواجب النفسي على قسمين: ذاتي وتهيّئي، فالأوّل: هوالواجب لنفسه والمطلوب لذاته والغاية القصوى، من دون أن يكون لأجلالتهيّؤ لواجب آخر، كالصلاة والصوم ونحوهما، والثاني: هو برزخ بينالواجب النفسي الذاتي وبين الواجب الغيري المقدّمي، فهو محبوب ومطلوببنفسه، لكن لا لنفسه، بل لأجل التهيّؤ لواجب نفسي ذاتي.
ومن خصائص هذا النوع من الواجب النفسي ترتّب استحقاق العقوبة على
(صفحه364)
تركه، بخلاف الواجب الغيري المقدّمي الذي لا يترتّب استحقاق العقوبة علىتركه، بل على ترك ذي المقدّمة.
فإذا كان الفحص واجباً نفسيّاً تهيّئيّاً وتركه المكلّف عند احتمال واجبمشروط أو موقّت وانجرّ إلى تركهما في ظرفهما كان مستحقّاً للعقوبة لأجلترك الفحص نفسه، لا لأجل تركهما كي يتوجّه الإشكال عليه(1).
هذا بيان هذين العلمين في التفصّي عن الإشكال في الواجب المشروطوالموقّت.
ووسّعه المحقّق الخراساني رحمهالله بحيث يعمّ الواجب المطلق أيضاً، فقال بكونالتفحّص والتعلّم واجباً نفسيّاً تهيّئيّاً، سواء كان ما يفحص عنه واجباً مطلقاً أومشروطاً(2).
البحث حول الواجب النفسي التهيّئي
ولابدّ هاهنا من التكلّم في مقامات ثلاثة:
أ ـ إمكان هذا النوع من الواجب في مقام الثبوت.
ب ـ ثبوت الملازمة بينه وبين استحقاق العقوبة على تركه.
ج ـ دليل هذا النوع من الوجوب في مقام الإثبات.
القول في إمكان كون الفحص واجباً نفسيّاً تهيّئيّاً
أمّا المقام الأوّل: فنحن لا نبحث فيه بنحو مسألة كلّيّة، بل نتكلّم فيخصوص وجوب الفحص الذي هو محلّ النزاع في المقام، فنقول:
- (1) مجمع الفائدة والبرهان 1: 342 و 2: 110، ومدارك الأحكام 2: 345 و 3: 219.