(الصفحة 10)
وقد أورد المحقّق الاصفهاني في حاشية كفاية الاُصول في ذيل حديث لا ضرر ولا ضرار موارد كثيرة من الكتاب العزيز والاستعمالات العربية قد ذكر فيها صيغة المفاعلة(1) مع عدم الدلالة على ما ذكر ، فراجع .
أو يقال بدلالة باب المفاعلة على ذلك ابتداءً وبالأصل ، وتكون الآية نظير قوله تعالى :
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(2) ، وعليه فالتسمية باسم المضاربة باعتبار كون المالك سبباً والعامل مباشراً، كما يظهر من صاحب العروة(3) ، وباسم القراض باعتبار قطع المالك حصّة من ماله ودفعه إلى العامل ليتّجر به ، وقطع العامل جزءاً من عمله لذلك وتخصيصه به .
ولعلّ السرّ في مشروعيّة المضاربة مع شدّة اهتمام الشارع بعدم تحقّق الربا ـ حتّى جعل مثل سيّدنا الاُستاذ الماتن (قدس سره) الحيل الشرعية في باب الربا غير مشروعة(4) ـ ومع اهتمامه أيضاً بعدم تحقّق الجهالة سيّما في العقود الماليّة; وهي متحقّقة في المضاربة لعدم تعيّن مقدار الربح بوجه ليعلم الكسر المشاع منه ، أنّ بناء النظام الإسلامي على حفظ اقتصاد المجتمع في جانب الشؤون الاعتبارية والأعمال الفرعية والتكاليف الشرعية ، وربما يوجد في المجتمع الإسلامي من لا يقدر على التجارة وتحصيل الربح مع وجود الإمكانات الماليّة له ، كما أنّه ربما يوجد من يقدر على التجارة ولكنّه لا يكون له رأس المال والإمكانات كذلك بوجه ، فغرض الشارع أن تصرف كلتا القدرتين في الشؤون الاقتصادية حتّى لا يكون للمجتمع الإسلامي
- (1) نهاية الدراية في شرح الكفاية : 4/437 .
- (2) سورة الأنفال : 8 / 30 .
- (3) العروة الوثقى : 2/525 .
- (4) تحرير الوسيلة : 1/512 ، كتاب البيع ، القول في الربا ، مسألة 6 .
(الصفحة 11)
افتقار إلى غيرهم ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الاقتصاد من أهمّ اُمور المجتمع ، ويتفرّع عليه اُمور كثيرة من المحاسن والمضارّ المتعدِّدة الفردية والاجتماعية ; ولذا نرى الأمر بإيتاء الزكاة عقيب الأمر بإقامة الصلاة في كثير من موارد الكتاب العزيز ، ولعلّه يكون مُشعراً بافتقار المجتمع إلى الاُمور العبادية والاقتصادية ، وإلاّ فالواجبات كثيرة ، وعطفها على الأمر بإقامة الصلاة ممكن، وظنّي أنّ تشريع المضاربة في الإسلام من أدلّة كماله وتمامه .
والظاهر أنّه ليس كالبيع والإجارة والنكاح والطلاق من العقود والإيقاعات الإمضائية ، غاية الأمر مع الاختلاف من حيث الشرائط ، بل هي أمرٌ تأسيسي لم يكن له سابقة في الملل الاُخرى وبين العقلاء ، كما لا يخفى .
ونظره إلى الدِّين والدُّنيا فراراً عن الربا ، كجعل المتعة فيه فراراً عن الزنا ، كما فصّلنا القول فيه في بحث نكاح المتعة المتقدّم في كتاب النكاح(1) .
ثمّ إنّه ذكر المحقّق الأردبيلي في كتاب زبدته المشتمل على آيات الأحكام ما يرجع إلى أنّ في المضاربة آيات ثلاث ; الاُولى :
{فَانتَشِرُوا فِى الاَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ}(2) . والثانية :
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ}(3) ، والثالثة :
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ}(4) ، ثمّ أورد على الاستدلال ـ كما صنعه بعض من فقهاء الحنفيّة
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب النكاح : 324 ، القول في النكاح المنقطع .
- (2) سورة الجمعة : 62 / 10 .
- (3) سورة النساء : 4 / 101 .
- (4) سورة المزمّل : 73 / 20 .
(الصفحة 12)
والشافعيّة ـ بأنّه لا دلالة فيها إلاّ بعموم بعيد ، وآية البيع والتجارة أقرب منها(1) . وأنت خبير بأنّه بعد توجيه كلامه من جهة أنّ مراده من العموم هو الإطلاق ، ضرورة عدم ثبوت العموم في شيء منها ، أنّ الإطلاق أيضاً محلّ منع ; لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة ، بل في مقام الإهمال أو أمر آخر كقصر الصلاة ، مضافاً إلى أنّ ما في ذيل كلامه من أنّ آية البيع والتجارة أقرب منها ممنوع ، ضرورة عدم كون المضاربة بيعاً ، بل صدق التجارة عليها مشكل بل ممنوع ; لأنّها مقدّمة لحصول التجارة وتحقّقها لا أنّها بنفسها أيضاً تجارة .
هذا بالإضافة إلى ما لو كان الربح الحاصل بينهما بصورة الكسر المشاع الذي هو المتيقّن الذي لا خلاف فيه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى(2) ، أمّا لو جعل تمام الربح للمالك فليس مضاربة بل بضاعة ، والظاهر ثبوت اُجرة المثل للعامل مع عدم اشتراط المجّانيّة ; لكون العمل محترماً واقعاً بأمر المالك ، فيجب فيه اُجرة المثل كسائر الموارد ، اللّهمَّ إلاّ أن يكون قصد العامل التبرّع والمجّانية ، أو كان للعمل ظهور عقلائي في ذلك ، وسيأتي الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى(3) . ثمّ إنّه حيث إنّ المضاربة من العقود يحتاج إلى الإيجاب والقبول ، ويكفي في الإيجاب كلّ لفظ يدلّ عليه بالظهور العرفي العقلائي كسائر الموارد ، ولا يعتبر أن يكون على سبيل الحقيقة فإنّ أصالة الظهور المعتمد عليها عند العرف والعقلاء أعمّ من أصالة الحقيقة، كما قد قرّر في محلّه ، فيكفي في الإيجاب الصادر من المالك لرأس المال «ضاربتك» أو «قارضتك» أو «عاملتك» بكذا ، وفي القبول «قبلت» و«رضيت» وشبهها ، وسيأتي
- (1) زبدة البيان : 587 .
- (2) في ص21 .
- (3) في ص 42 ـ 43 .
(الصفحة 13)
[شرائط المضاربة]
مسألة 1 : يشترط في المتعاقدين البلوغ والعقل والاختيار ، وفي ربّ المال عدم الحجر لفلس ، وفي العامل القدرة على التجارة برأس المال ، فلو كان عاجزاً مطلقاً بطلت ، ومع العجز في بعضه لا تبعد الصحّة بالنسبة على إشكال . نعم ، لو طرأ في أثناء التجارة تبطل من حين طروّه بالنسبة إلى الجميع لو عجز مطلقاً ، وإلى البعض لو عجز عنه على الأقوى. وفي رأس المال أن يكون عيناً ، فلا تصحّ بالمنفعة ولا بالدين ; سواء كان على العامل أو غيره إلاّ بعد قبضه . وأن يكون درهماً وديناراً، فلا تصحّ بالذهب والفضّة غير المسكوكين والسبائك والعروض.
نعم، جوازها بمثل الأوراق النقديةونحوها من الأثمان غير الذهب والفضّة لايخلو من قوّة ، وكذا في الفلوس السود . وأن يكون معيّناً، فلا تصحّ بالمبهم; كأن يقول : «قارضتك بأحد هذين» أو «بأيّهما شئت». وأن يكون معلوماً قدراً ووصفاً . وفي الربح أن يكون معلوماً ، فلو قال : «إنّ لك مثل ما شرط فلان لعامله» ولم يعلماه بطلت . وأن يكون مشاعاً مقدّراً بأحد الكسور;
بعض الخصوصيات الاُخر المعتبر في المتعاقدين في باب المضاربة ، فانتظر .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ المضاربة عقد مستقلّ بحياله وله اعتبار خاصّ عند الشارع، ولا تكون من مصاديق الوكالة كما يظهر من المالكيّة على ما حكي(1) ، ولا الشركة بين المالك والعامل من جهة رأس المال والعمل ، كما حكي عن بعض آخر من فقهاء الناس ، كما أنّه لا تنطبق على الربا بوجه ، ويؤيّده إمكان عدم حصول الربح رأساً ، فهي في الحقيقة عنوان آخر يترتّب عليها أحكام خاصّة على ما سيأتي .
- (1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : 3/517 .
(الصفحة 14)كالنصف أو الثلث ، فلو قال : «على أنّ لك من الربح مائة والباقي لي» أو بالعكس ، أو «لك نصف الربح وعشرة دراهم» مثلاً لم تصحّ . وأن يكون بين المالك والعامل لا يشاركهما الغير ، فلو جعلا جزءاً منه لأجنبيّ بطلت إلاّ أن يكون له عمل متعلّق بالتجارة1.
1ـ لا شبهة في اعتبار الاُمور المعتبرة في المتعاقدين من البلوغ والعقل والاختيار في سائر العقود ، خصوصاً العقود المالية هنا أيضاً ، وأمّا الاُمور الخاصّة المعتبرة هنا فهي عبارة عن :
1: يشترط في ربّ المال أن لا يكون محجوراً لفلس ، ضرورة أنّ المضاربة تصرّف في المال ، وإذا حكم على ربّ المال بعدم جواز التصرّف فلا تصحّ المضاربة الصادرة منه ، والظاهر أنّ المحجورية لسفه أيضاً كذلك ; لعدم الفرق كما لايخفى .
2: يشترط في العامل القدرة على التجارة والتكسّب برأس المال ، فإن كان عاجزاً عنها وكان عجزه مطلقاً بطلت المضاربة ; لعدم تحقّق الغرض منها قطعاً كما هو المفروض ، وأمّا لو كان عاجزاً عن التجارة بجميع رأس المال لا ببعضه ، فقد نفى البُعد في المتن عن الصحّة بالإضافة إلى ذلك البعض مع التعقّب بالإشكال ، ولعلّ السرّ فيه عدم تبعّض العقد ، مضافاً إلى إمكان جعل رأس المال بيد من يقدر على التجارة بالجميع ، فيكون ربحه أكثر والنفع الحاصل أزيد ، وقد عرفت(1) أنّ الغرض من تشريع المضاربة عدم ركود الإمكانات المالية وكذا الإمكانات العملية الحسبية ، وهذا بخلاف ما لو باع عبداً وحرّاً بعنوان العبودية ، حيث إنّه بعد استكشاف الحال يصير البيع مبعّضاً من دون أن يلزم تال فاسد .