(الصفحة 10)مسألة : يعتبر في الوقف الصيغة ; وهي كلّ ما دلّ على إنشاء المعنى المذكور ، مثل : «وقفت» و«حبست» و«سبّلت» بل و«تصدّقت» إذا اقترن به ما يدلّ على إرادته ، كقوله : «صدقة مؤبّدة لا تُباع ولا توهب» ونحو ذلك ، وكذا مثل : «جعلت أرضي موقوفة أو محبسة أو مسبّلة على كذا» ، ولا يعتبر فيه العربيّة ولا الماضويّة ، بل يكفي الجملة الاسميّة ، مثل : «هذا وقف» أو
وكيف كان ، فالوقف عبارة عن تحبيس العين وتسبيل المنفعة أو إطلاقها ، وقد وقع هذا التعبير في الرواية النبويّة(1) ، وفيه فضل كثير وثواب جزيل . والظاهر أنّه لا فرق فيه بين الوقف العامّ والوقف الخاصّ ; لإطلاق مثل الرواية المذكورة في المتن وإن كان بينهما فرق من جهة بعض الأحكام ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني (قدس سره) صاحب كفاية الاُصول في رسالته في الوقف بعد أن حكى عن جماعة من الفقهاء في تعريف الوقف أنّه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وعن جماعة اُخرى أنّه عقدٌ ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة ، قال : وليس هذا خلافاً في حقيقته ; لما حقّقنا في البحث وغيره أنّ الأصحاب في تعاريفهم في سائر الأبواب إنّما هم بصدد شرح الاسم كاللغوي لا الحدّ أو الرسم ، وكيف كان ، فهو حبس خاصّ ، وهو المطلق منه المقابل للحبس لا مطلقه الشامل لهما ، والتفاوت بينهما إنّما يكون بالمرتبة ، كما يكون بين الإيجاب والاستحباب الخ(2) .
قلت : إنّ التعبير بأنّه عقد ، يتوقّف على اعتبار القبول فيه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى عدم الاعتبار(3) ، من دون فرق بين الوقف العامّ والوقف الخاصّ ، فانتظر .
- (1) سنن ابن ماجة : 4 / 63 ح2397 ، السنن الكبرى للبيهقي : 9 / 135 ح12126 و22127 .
- (2) الرسائل الفقهيّة للمحقّق الخراساني ، أوّل كتاب الوقف .
- (3) في ص 15 ـ 16.
(الصفحة 11)«هذه محبسة أو مسبّلة»1 .
مسألة: لابدّ في وقف المسجد من قصد عنوان المسجديّة ، فلو وقف مكاناً على صلاة المصلّين وعبادة المسلمين صحّ ، لكن لم يصر به مسجداً ما لم يكن المقصود عنوانه ، والظاهر كفاية قوله : «جعلته مسجداً» وإن لم يذكر ما يدلّ على وقفه وحبسه ، والأحوط أن يقول : «وقفته مسجداً» أو « . . . على أن يكون مسجداً»2 .
1 ـ يعتبر في الوقف الصيغة الخاصّة ، لا بمعنى عدم وقوعه بالمعاطاة ، فإنّه يجيء في المسألة الثالثة كفاية المعاطاة في الجملة ، بل بمعنى أنّه إذا أراد الإنشاء باللفظ يعتبر فيه ذلك ; وهي كلّ لفظ دلّ على إنشاء المعنى المذكور ، كالأمثلة المذكورة في المتن ، ولا يعتبر فيه العربيّة والماضويّة ، بل تكفي الجملة الاسمية ، كالأمثلة المذكورة في المتن ومثلها ، كالتعبير بأنّها صدقة جارية للعلماء ، أو الفقراء ، أو لخصوص الأولاد ; وذلك لعدم الدليل على اعتبار لفظ خاصّ ، فيكفي كلّ ما له ظهور عرفيّ في ذلك ; فإنّك عرفت أنّ المعتمد عند العقلاء هي أصالة الظهور ، وهي أعمّ من أصالة الحقيقة ، فقوله : «رأيت أسداً يرمي» ظاهر في الرجل الشجاع وإن لم يكن حقيقة فيه .
2 ـ لابدّ في وقف المسجد من قصد عنوان المسجديّة ; فإنّه عنوان خاصّ لا يتحقّق إلاّ بقصده ولو فرضنا عدم اعتبار التأبيد فيه ، كاستئجار الأرض لأن يعمل مسجداً ، على ما ذكره السيّد في العروة في كتاب الإجارة(1) ، فلو وقف مكاناً على صلاة المصلّين صحّ ، لكن لم يصر به مسجداً ، كما هو المتداول في زماننا هذا في
- (1) العروة الوثقى : 2 / 506، كتاب الإجارة، مسألة 3331 .
(الصفحة 12)مسألة : الظاهر كفاية المعاطاة في مثل المساجد ، والمقابر ، والطرق والشوارع ، والقناطر ، والرباطات المعدّة لنزول المسافرين ، والأشجار المغروسة لانتفاع المارّة بظلّها أو ثمرها ، بل ومثل البواري للمساجد ، والقناديل للمشاهد ، وأشباه ذلك ، وبالجملة : ما كان محبساً على مصلحة عامّة ، فلو بنى بناءً بعنوان المسجديّة وأذن في الصلاة فيه للعموم وصلّى فيه بعض الناس كفى في وقفه وصيرورته مسجداً . وكذا لو عيّن قطعة من الأرض لأن تكون مقبرة للمسلمين وخلّى بينها وبينهم وأذن إذناً عامّاً للدفن فيها ، فدفنوا فيها بعض الأموات ، أو بنى قنطرة وخلّى بينها وبين العابرين فشرعوا في العبور عليها ، وهكذا1 .
مملكتنا من تأسيس أمكنة كبيرة لصلاة الجمعة التي يجتمع فيها عدد كثير نوعاً يعبّرون عنها بالمصلّى باعتبار وقوع صلاة الجمعة فيها ، وهذه الأمكنة وإن كانت موقوفة على صلاة الجمعة أو مطلقاً ، لكنّها لا تكون مسجداً ، ولا يترتّب عليها أحكام المسجديّة من عدم جواز التنجيس ، وعدم مكث الجنب فيها ، وغيرهما من أحكام المسجد ; والسرّ فيه عدم كون عنوان المسجدية مأخوذاً في وقفه وحبسه ، ولذا ترى أنّ المتشرّعة يفرّقون بين تلك الأمكنة وبين المساجد ، كالتفريق بين المسجد والحسينية ، فتدبّر .
1 ـ والدليل على كفاية المعاطاة في مثل الأمثلة المذكورة في المتن ممّا كان محبساً على مصلحة عامّة أنّه لا دليل على اعتبار الإنشاء بالصيغة مثل الألفاظ المتقدّمة ، بل يكفي الإنشاء الفعلي; بأن بنى بناءً بعنوان المسجديّة وأذن في الصلاة فيه .
نعم ، ذكر السيّد في الملحقات أنّ ظاهر العلماء على اشتراط الصيغة في الوقف ،
(الصفحة 13)مسألة : ما ذكرنا من كفاية المعاطاة في المسجد إنّما هو فيما إذا كان أصل البناء بقصد المسجديّة ; بأن نوى ببنائه وتعميره أن يكون مسجداً ، خصوصاً إذا حاز أرضاً مباحة لأجل المسجد وبنى فيها بتلك النيّة . وأمّا إذا كان له بناء مملوك ـ كدار أو خان ـ فنوى أن يكون مسجداً وصرف الناس بالصلاة فيه ـ من دون إجراء الصيغة عليه ـ يشكل الاكتفاء به . وكذا الحال في مثل الرباط والقنطرة2 .
وأنّه بدونها غير صحيح ، ولكنّه قوّى نفسه الاكتفاء بالمعاطاة(1) ، كما هو المحكيّ عن ابن إدريس(2) ، والشهيد في الذكرى(3) في المسجد ولو مع عدم إجراء الصيغة ; لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة .
والظاهر عدم اختصاص ذلك بالمسجد ، بل يجري في مثله من الاُمور المذكورة في المتن .
وأمّا ما يظهر منه من اعتبار صلاة بعض الناس فيما بناه بعنوان المسجدية ، أو دفن بعض الأموات فيما لو عيّن قطعة من الأرض لأن تكون مقبرة للمسلمين ، أو العبور على القنطرة فيما لو بنى قنطرة فالظاهر أنّه لا دليل عليه ، بل الظاهر كفاية البناء أو التعيين بقصد العناوين المذكورة والتخلية بينها وبين الناس في الاستفادة المناسبة وإن لم تتحقّق بالفعل ، وإلاّ يلزم شبه الدور ، فإنّ جواز الاستفادة متوقّف على الوقفيّة ، فلو كان العكس يلزم الدور ، فتدبّر .
2 ـ الغرض من هذه المسألة بيان أنّ ما ذكرنا في المسألة السابقة من كفاية
- (1) ملحقات العروة : 2 / 189 مسألة 1 .
- (2) السرائر : 1 / 280 .
- (3) ذكرى الشيعة : 3 / 133 .
(الصفحة 14)مسألة : لا إشكال في جواز التوكيل في الوقف . وفي جريان الفضوليّة فيه خلاف وإشكال لا يبعد جريانها فيه ، لكن الأحوط خلافه1 .
المعاطاة في المسجد إنّما هو فيما إذا كان أصل البناء وإحداثها بقصد المسجديّة ; كأن كان له أرض مملوك ، أو حاز أرضاً مباحة لأجل المسجد وبنى فيها بتلك النيّة . أمّا إذا كان له بناء مملوك قد أحدث بغير هذا العنوان ـ كدار أو خان ـ فنوى أن يكون مسجداً وصرف الناس بالصلاة فيه من دون إجراء الصيغة عليه ، فقد استشكل في المتن في الاكتفاء به .
ولعلّ السرّ في الإشكال أنّ تعيّنه للوقفيّة بعنوان المسجديّة إمّا أن يكون لأجل النيّة ، أو بضميمة صرف الناس بالصلاة فيه ، والأوّل لا يوجب التعيّن لاحتياج الوقف إلى الصيغة ولو قلنا بالاكتفاء مقامها بالمعاطاة ، فإنّ مجرّد النيّة لا يوجب ذلك ، وصرف الناس بالصلاة فيه لازم أعمّ من المسجديّة ، ومن الممكن أن يريد صلاة الناس في داره من غير أن تكون مسجداً ، وهذا بخلاف ما إذا كان أصل الإحداث بقصد المسجديّة ، خصوصاً مع الصرف المذكور ، وهكذا الحال في مثل الرباط والقنطرة .
هذا ، ولكن الظاهر الجواز خصوصاً في الصورة المذكورة ; لتقوّم عنوان المسجدية بالقصد ، وإلاّ فالبناء من حيث هو لا دلالة له على ذلك ، فأيّ فرق بين الإحداث وتغيير النيّة في مثل الدار والخان ، كما لا يخفى .
1 ـ نفى الإشكال عن جواز التوكيل في الوقف ; سواء كانت دائرة التوكيل متّسعة شاملة لأصل إحداث البناء بهذا العنوان ، أم غير متّسعة ، كما إذا كانت في إنشاء صيغة الوقف ، أو إجراء المعاطاة فيه ; لعدم الدليل على لزوم المباشرة ، كما أنّه