ج2
وقد تلخّص ممّا ذكرناه إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به(1).
إنتهى كلامه ملخّصاً.
كلام المحقّق الحائري رحمهالله في المقام ونقده
2ـ وقد تصدّى المحقّق الحائري رحمهالله في الدرر لدفع الإشكال بوجهين آخرين:
الوجه الأوّل: ما حاصله أنّ المعتبر في العبادات ليس قصد إطاعة الأمر،وإنّما المعتبر فيها وقوع الفعل بنحو يصير مقرّباً، وهذا لا يتوقّف على الأمر،بيان ذلك: أنّ الأفعال على قسمين: أحدهما: ما ليس للقصد دخل في تحقّقهوصدق عنوانه عليه، بل لو صدر عن الغافل أيضاً لصدق عليه عنوانه(2)،ثانيهما: ما يكون قوامه بالقصد، كالتعظيم والإهانة وأمثالهما، ثمّ إنّه لا إشكالفي أنّ تعظيم المولى بما هو أهل له، وكذلك مدحه بما يليق به حسنان عقلومقرّبان إليه بالذات من غير احتياج في مقرّبيّتهما إلى الأمر بهما، ولا إشكالأيضاً في أنّ اختلاف خصوصيّات المعظِّم والمعظَّم والمادح والممدوح موجبلاختلافهما، فقد يكون تعظيم شخص بالسلام عليه، وقد يكون بتقبيل يده،وقد يكون بغير ذلك، وقد يشكّ بالنسبة إلى بعض الموالي في أنّ التعظيم اللائقبجنابه والمدح المناسب لشأنه ماذا، وحينئذٍ فنقول: إنّ علم العبد بأنّ التعظيموالمدح اللائقين بجناب مولاه ماذا فلا محالة يأتيهما ويصيران مقرّبين له منغير احتياج إلى الأمر بهما، وأمّا إذا شكّ في أنّ أيّ فرد من أفراد التعظيميناسب مقامه فلابدّ حينئذٍ من الإعلام من قبل المولى والأمر بما يحصل به
- (1) نهاية الاُصول: 116، وتهذيب الاُصول 1: 216.
- (2) وذلك كالإتلاف الذي جعل في الشريعة موضوعاً للضمان، سواء قصد المتلف الإتلاف أم لا، بل يترتّبعليه الحكم ولو كان المتلف نائماً أو صغيراً. منه مدّ ظلّه.
(صفحه102)
التعظيم والمدح، ولكنّ الأمر إنّما هو لتشخيص ما يحصل به التعظيم فقط، للكون قصده دخيلاً في حصول القرب، بل القرب يحصل بصرف إيجاد الفعلمع قصد عنوانه، فالصلاة مثلاً وإن لم تكن ذوات أفعالها وأقوالها من دونإضافة قصد إليها بمحبوبة ولا مجزية، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئةالمركّبة من الحمد والثناء والتهليل والتسبيح والخضوع والخشوع مقرونةبقصد هذه العناوين محبوباً للآمر ومناسباً لمقامه، غاية الأمر قصور فهمالإنسان عن إدراك ذلك أحوجه إلى أمر المولى بها، بحيث لو كان عقله كاملاً لميحتج إلى الأمر أبداً، وعلى هذا ففي عباديّتها ومقرّبيّتها لا نحتاج إلى قصدالأمر حتّى يلزم المحذور(1).
وناقش فيه سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله بقوله:
إنّ قصد عنوان الفعل إن كان كافياً بلا احتياج إلى قصد حصول القربة كانحاصل ذلك عدم اشتراط قصد القربة في حصول العبادة، وهذا مخالفلضرورة الدِّين وإجماع(2) المسلمين(3).
وفيه: أنّه لم يرد في آية أو رواية اعتبار قصد القربة في العبادات ـ كما اعترفهو رحمهالله في مباحث الصلاة التي قرّرتها وسميّتها «نهاية التقرير» ـ مع أنّه لو اعتبرزائداً على قصد عناوينها لورد في الشريعة، كما أنّه ورد «لا صلاة إلبطهور»(4) و«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(5)، ونحوهما.
نعم، ورد النهي عن أضداد قصد القربة وأنّها مبطلة للعبادة، كالرياء ونحوه،
- (2) فإنّ الفقهاء قالوا: لابدّ لتحقّق العبادة من أمرين: أحدهما: قصد عنوان الفعل، كالصلاة والصوم ونحوهما،الثاني: قصد القربة. منه مدّ ظلّه.
- (4) وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
- (5) مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القرائة، الحديث 5.
ج2
ولكنّ الرياء مثلاً يتحقّق بمجرّد وقوع صورة العمل من قبل المرائي من دونقصد عنوان الفعل، فإذا قصد عنوان الفعل لم يتحقّق الرياء وتحقّقت العبادة،فلا تحتاج في وقوعها إلى قصد القربة زائداً على العنوان الذي به يتحقّقالتعظيم.
فما ذهب إليه المحقّق الحائري رحمهالله من أنّ قصد عنوان الصلاة محقّق لعباديّتهصحيح، لأنّ إرادة عنوان الصلاة تستلزم خلوّها عن أضداد قصد القربة،وخلوّها عنها يلازم حصول نفس قصد القربة، وإن كان قول الفقهاء باعتبارقصد العنوان والقربة كليهما ظاهراً في عدم تحقّق الملازمة بينهما.
نعم، يرد على صاحب الدرر إشكال آخر، وهو أنّ جوابه عن المحقّقالخراساني رحمهالله مبنائي، فإنّه بنى الإشكال على أخذ قصد القربة في متعلّق الأمرعلى أمرين: أحدهما: أنّ قصد القربة من مقوّمات العبادة، وبه يمتاز عنالواجبات التوصّليّة، كما هو مذهب المشهور، الثاني: أن يكون قصد القربةبمعنى قصد امتثال الأمر وإتيان العمل بداعيه، والمحقّق الحائري رحمهالله أنكر المبنىالأوّل، وقال: لا يحتاج العبادة إلى قصد القربة، بل يكفي في وقوعها تحقّقعنوان التعظيم، وهو يوجد بقصده بعد العلم بكونه تعظيماً مناسباً له تعالى.
لا يقال: فكيف تسلّمتم جواب السيّدين السندين البروجردي والإمامعن صاحب الكفاية مع أنّه أيضاً مبنائي، فإنّهما أنكرا المبنى الثاني، وقالا: ليسمعنى قصد القربة إتيان العمل بداعي الأمر، بل إتيانه بداع إلهي من الخوف عنالنار أو الطمع في الجنّة ونحوهما.
فإنّه يقال: نعم، ولكنّهما ذهبا إلى أنّه لا يمكن أن يكون قصد القربة بمعنىإتيان العمل بداعي الأمر، لعدم كون الأمر داعياً إليه، وإلاّ لتحقّق المأمور بهمن جميع المكلّفين قهراً ولم يقدر أحد على مخالفة الأمر، مع أنّا نشاهد المعاصي
(صفحه104)
الكثيرة في العالم، بخلاف المحقّق الحائري رحمهالله ، فإنّه لم يقل بعدم إمكان كون قصدالقربة من مقوّمات العبادة، بل قال بأنّا لا نحتاج إليه.
إن قلت: إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله لم يقل بكون الأمر داعياً تكوينيّاً إلىالعمل، بل قال بكونه داعياً اعتباريّاً، والعمل لا يكاد يمكن أن يتخلّف عنداعيه الواقعي التكويني، ولكنّه قد يتخلّف عن داعيه الاعتباري، فلا بأسبالقول بكون الأمر داعياً إلى العمل.
قلت: الاُمور الحقيقيّة لابدّ من أن يكون عللها الداعية إليها أيضاً اُمورحقيقيّة، والصلاة التي توجد في الخارج وإن كان تركّبها من تلك الأقوالوالأفعال تركّباً اعتباريّاً، إلاّ أنّ نفسها أمر حقيقي واقعي كما هو واضح، فهيتحتاج في تحقّقها إلى داعٍ تكويني واقعي، ولا يكفيه مجرّد اعتبار شيء داعيإليها.
الوجه الثاني: أنّ ذوات الأفعال مقيّدةً بعدم صدورها عن الدواعيالنفسانيّة محبوبة عند المولى، وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمات ثلاث:
الاُولى: قد اشتهر أنّ العبادات عبارة عن إتيان الفعل بداعي أمر المولى،فهي مركّبة من أمرين: ذات الفعل، وداعي الأمر، لكن يمكن أن يقال: إنّهمركّبة من ثلاثة اُمور: 1ـ ذواتها، 2ـ عدم الدواعي النفسانيّة، 3ـ وجود داعيالأمر، ويتحقّق الملازمة بين الجزئين الأخيرين، لأنّ الفاعل المختار إذا لم يكنله داعٍ نفساني كان له داعٍ إلهي لا محالة.
هذا بناءً على كون قصد الأمر جزءً، وأمّا بناءً على كونه قيداً فالعبادة هيالصلاة المقيّدة بقيد مركّب من جزئين: أحدهما: عدم الدواعي النفسانية،والآخر داعي الأمر، وعلى هذا الفرض أيضاً كلّ واحد من جزئي القيد ملازملجزئه الآخر.
ج2
الثانية: أنّ الأمر الملحوظ فيه حال الغير تارةً يكون للغير، واُخرىيكون غيريّاً، مثال الأوّل: الأمر بالغسل قبل طلوع الفجر في شهررمضان(1)، فإنّه لا يمكن أن يكون غيريّاً مقدّمياً، لأنّه لا يعقل وجوب المقدّمةقبل وجوب ذيها، فلابدّ من أن يكون وجوب الغسل نفسيّاً، لكنّه لأجلالصوم، ومثال الثاني: الأوامر الغيريّة المسبّبة من الأوامر المتعلّقة بالعناوينالمطلوبة نفساً، فتقسيم الواجب بهذا اللحاظ يصير ثلاثيّاً، لأنّه إمّا نفسيلنفسه، أو نفسي لغيره، أو غيري.
الثالثة: أنّه لا إشكال في أنّ القدرة شرط في تعلّق الأمر بالمكلّف، ولكنهل يشترط ثبوت القدرة سابقاً على الأمر ولو رتبةً، أو يكفي حصول القدرةولو بنفس الأمر؟ الأقوى الأخير، لعدم وجود مانع عقلاً في أن يكلّف العبدبفعل يعلم بأنّه يقدر عليه بنفس الأمر.
إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعيالإلهي الذي يكون مورداً للمصلحة الواقعيّة وإن لم يكن قابلاً لتعلّق الأمر بهبملاحظة الجزء الأخير، أمّا من دون ضمّ القيد الأخير فلا مانع منه.
ولا يرد أنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير لا يكاديتّصف بالمطلوبيّة، فكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمامالقيود التي يكون بها قوام المصلحة.
لأنّا نقول: عرفت أنّه قد يتعلّق الطلب بما هو لا يكون مطلوباً فيحدّ ذاته، بل يكون تعلّق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير، والفعل المقيّد
- (1) والمثال الأوضح: الأمر بتعلّم الواجبات، فإنّه عند بعض الفقهاء والاُصوليّين نفسيّ، لما ورد من أنّه إذقيل يوم القيامة لمن ترك الواجبات: «لِمَ تركتها؟» فإن قال: ما كنت عالماً بها، قيل له: «هلاّ تعلّمت؟»فالمؤاخذة على ترك التعلّم دليل على أنّه واجب نفسي، لكنّه لأجل الغير، ضرورة أنّ تعلّمها واجبلأجل العمل بها، لا لأجل نفس التعلّم. منه مدّ ظلّه.