ج2
ويمكن أن يناقش فيه بعدم اشتراط القول في تحقّق جميع الاُمور الإنشائيّة،فإنّ البيع مثلاً يتحقّق بالمعاطاة مع كونه منها، إلاّ أن لا يكون ذكر كلمة«القول» للاحتراز عن غير اللفظ، بل لبيان المصداق الواضح.
نقد كلام المشهور من قبل السيّد الخوئي«مدّ ظلّه»
وأورد بعض الأعلام على المشهور بقوله: المعروف بين العلماء أنّها(1)موضوعة لإيجاد معنى من المعاني نحو إيجاد مناسب لعالم الإنشاء، وقد تكرّرفي كلمات كثير منهم أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ، وقد ذكرنا في مباحثنالاُصوليّة أنّه لا أصل للوجود الإنشائي، واللفظ والمعنى وإن كانت لهما وحدةعرضيّة منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الواضع، فوجود اللفظ وجودله بالذات، ووجود للمعنى بالعرض والمجاز، ومن أجل ذلك يسري حسنالمعنى وقبحه إلى اللفظ، وبهذا المعنى يصحّ أن يقال: وجد المعنى باللفظ وجودلفظيّاً، إلاّ أنّ هذا لا يختصّ بالجمل الإنشائيّة، بل يعمّ الجمل الخبريّةوالمفردات أيضاً(2).
أمّا وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين، وكلاهما لمدخل للّفظ فيه أبداً:
أحدهما: وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهروالأعراض، ولابدّ في تحقّق هذا الوجود من تحقّق أسبابه وعلله، والألفاظأجنبيّة عنها بالضرورة.
- (1) المراد بنفس الأمر أعمّ من الخارج والذهن وعالم الاعتبار. منه مدّ ظلّه.
- (2) نضد القواعد الفقهيّة: 137.
- (3) أي هيئة الجملة الإنشائيّة. م ح ـ ى.
- (4) مع أنّه لا يمكن الالتزام بإنشائية الجمل الخبريّة والمفردات، فلا يكون تعريف الإنشاء بما ذكر مانعللأغيار. منه مدّ ظلّه في توضيح كلام آية اللّه الخوئي.
(صفحه36)
ثانيهما: وجوده الاعتباري، وهو نحو من الوجود للشيء، إلاّ أنّه في عالمالاعتبار لا في الخارج، وتحقّق هذا النحو من الوجود إنّما هو باعتبار من بيدهالاعتبار(1)، واعتبار كلّ معتبر قائم بنفسه، ويصدر منه بالمباشرة، ولا يتوقّفعلى وجود لفظ في الخارج أبداً، أمّا إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أوالإيقاعات الصادرة من الناس فهو وإن توقّف على صدور لفظ من المنشئ أوما بحكم اللفظ، ولا أثر لاعتباره(2) إذا تجرّد عن المبرز من قول أو فعل، إلاّ أنّالإمضاء المذكور متوقّف على صدور لفظ قصد به الإنشاء، وموضع البحثهو مفاد ذلك اللفظ الذي جيء به في المرحلة السابقة على الإمضاء.
وعلى الجملة: إنّ الوجود الحقيقي والاعتباري للشيء لا يتوقّفان علىاللفظ، وأمّا إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو وإن توقّف علىصدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ، إلاّ أنّه يتوقّف عليه بما هو لفظ مستعملفي معناه، وأمّا الوجود اللفظي فهو عامّ لكلّ معنى دلّ عليه باللفظ، فلا أساسللقول المعروف: «الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ».
والصحيح: أنّ الهيئات الإنشائيّة وضعت لإبراز أمر ما من الاُمورالنفسانيّة، وهذا الأمر النفساني قد يكون اعتباراً من الاعتبارات، كما في الأمروالنهي والعقود والإيقاعات، وقد يكون صفة من الصفات، كما في التمنّيوالترجّي، فهيئات الجمل أمارات على أمر من الاُمور النفسانيّة، وهو فيالجمل الخبريّة قصد الحكاية، وفي الجمل الإنشائيّة أمر آخر(3).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
- (1) فالبائع مثلاً يعتبر في نفسه ملكيّة المشتري للمبيع، سواء أبرزها باللفظ أم لا، وسواء أمضاها الشارعوالعقلاء أم لا. م ح ـ ى.
- (2) أي لا أثر لاعتبار المنشئ عند الشارع والعقلاء. م ح ـ ى.
- (3) البيان في تفسير القرآن: 435.
ج2
دفع ما أورده المحقّق الخوئي على المشهور
وفيه أوّلاً: أنّه قال بانحصار وجود المعنى في نحوين: حقيقي واعتباري، ولميقم دليلاً على نفي الثالث، فيمكن دعوى ثبوت الوجود الإنشائي أيضاً،ودعوى تحقّقه باللفظ.
وثانياً: أنّا لا نسلّم تحقّق مثل البيع والنكاح من الاُمور الاعتباريّة في نفسالبائع والزوجة قبل عقدهما، بل يوجدان بوجود إنشائي اعتباري بسببصيغتيهما، والمعتبر هو البائع المنشئ والزوجة المنشئة، سواء اعتبرهما الشارعوالعقلاء أيضاً أم لا، فإن اعتبراهما كانا بيعاً ونكاحاً شرعيّين وعقلائيّينأيضاً، وإلاّ بقيا في مرحلة الوجود الإنشائي الذي أنشأه البائع والزوجة بلفظ«بعت» و«زوّجت» من دون أن يترتّب عليه أثر شرعي أو عقلائي. فلوجود للبيع والنكاح قبل عقدهما، وهذا ما يحكم به العقلاء، على أنّ النكاحمثلاً لو وجد بمجرّد اعتبار الزوجين من دون أن يكون لفظ في البين، وكاناللفظ لمجرّد إبراز ما في أنفسهما لم يحتج إليه فيما إذا كان ما في ضميرهما معلوماً،مع أنّا نقطع بلزوم الصيغة عند العلم والجهل.
فالحقّ ما ذهب إليه المشهور من أنّ «الإنشاء هو القول الذي يوجد بهمدلوله في نفس الأمر».
في اتّحاد الطلب والإرادة
إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله ـ بعد ذهابه إلى أنّ الطلب الذي يكونهو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي ولا مطلق الطلب بل الإنشائي منه قال:
ولو أبيت إلاّ عن كونه موضوعاً للطلب(1) فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى
- (1) أي لمطلق الطلب. م ح ـ ى.
(صفحه38)
الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ الطلب أيضاً، وذلك لكثرةالاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظالطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة، واختلافهما في ذلكألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة(1)، من المغايرة بينالطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة من اتّحادهما بمعنى أنّلفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكونبإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة، وبالجملة:هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً(2)، إنتهى ملخّصاً.
البحث حول الكلام النفسي
ولا بأس بالبحث مختصراً عن الكلام النفسي الذي سمّي عند الأشاعرةبالطلب المغاير للإرادة في موارد الجمل الإنشائيّة الطلبيّة، فنقول:
إنّ أوّل مسألة وقعت محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كلامه(3) تعالى،
- (1) ولا بأس بالإشارة إلى مبدء تكوّن الأشاعرة والمعتزلة وتسميتهما بهذين الاسمين، فنقول: إنّ الحسنالبصري ـ وببالي أنّه كان من الأسارى ثمّ أسلم ـ حيث كان عالماً شرع في التعليم، وحضر في مجلسدرسه كثير من المسلمين منهم واصل بن عطاء، فوقع في يوم من الأيّام بينه وبين الحسن بحث علمي،فاعتزل بعد منازعة طويلة بينهما عن مجلس الدرس وأسّس حوزة درس في مقابل الحسن، فاجتذب إليهجمع من المسلمين، فكان بعدئذٍ كلّ منهما يخالف الآخر في أكثر المسائل.
ثمّ إنّ أبا الحسن الأشعري ـ والظاهر أنّه من أعقاب أبي موسى الأشعري ـ بالغ بعد الحسن البصري فيترويج عقائده، فوجه تسمية المعتزلة بهذا الإسم إنّما هو اعتزال رئيسهم عن مجلس درس اُستاذه، ووجهتسمية الأشاعرة بهذا الاسم إنّما هو ترويج هذا المذهب بيد أبي الحسن الأشعري.
وببالي أنّ أيدي اليهود ـ الذين كانوا أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، كما أنّهم الآن كذلك أيضاً ـ فرّقت بينالمسلمين بهذا النحو وسائر أنحاء التفرّقات، كما أنّ المعاندين للإسلام خذلهم اللّه تعالى يفرّقون اليومبينهم بأنحاء مختلفة، منها أنّهم أوجدوا الوهابيّة في مهد نشوء الإسلام ومحلّ نزول القرآن.منه مدّ ظلّه.
- (3) وهذا النزاع صار منشأ تسمية علم الكلام به. منه مدّ ظلّه.
ج2
وأنّه هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل، بعد اتّفاقهما في صحّةإطلاق المتكلِّم عليه تعالى، لأجل كون القرآن كلامه أوّلاً، وتصريح بعضالآيات ـ كقوله: «وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما»(1) ـ عليه ثانياً.
الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل
والفرق بين القسمين من الصفات من وجهين:
1ـ أنّ صفات الذات كالعلم والقدرة غير محدودة ولا مختلفة، لثبوتها فيمقام الذات الذي لا يكون محدوداً ولا مختلفاً، فإنّه تعالى بكلّ شيءٍ عليم،وعلى كلّ شيءٍ قدير، بخلاف صفات الفعل، كالرزق والخلق، فإنّها منتزعةعن مقام فعله تعالى، وتكون محدودة مختلفة، فإنّه سبحانه يرزق بعض أفرادالإنسان أكثر من بعض، ويخلق في زمان أفراداً، وفي زمان آخر أفراداً اُخرى،فلم يخلق في الزمن الأوّل من خلقه في الزمن الثاني، ولا في الزمن الثانيمن خلقه في الزمن الأوّل.
2ـ أنّ صفات الذات قديمة، كما أنّ نفس الذات تكون كذلك، بخلاف صفاتالفعل، فإنّها حادثة.
الأقوال في كلامه تعالى
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعتزلة والإماميّة قالوا بأنّ كلامه تعالى أصواتككلام الإنسان، إلاّ أنّها قائمة بالأجسام مسموعة منها كالشجر ونحوه، فهيحادثة ومن صفات الفعل.