(صفحه50)
وإنشاءً» فاسد من أصله، فإنّ لفظ الإرادة موضوع لصفة خاصّة من صفاتالنفس، والصفات النفسانيّة من الاُمور الحقيقيّة التي يكون بحذائها شيء فيالخارج، فلا تقبل الوجود الإنشائي، لإباء الاُمور الحقيقيّة هذا النحو منالوجود، بخلاف الطلب، فإنّ له معنى قابلاً لأن يوجد بالإنشاء، وهو البعثوالتحريك.
وبعبارة اُخرى: الموجودات على قسمين:
1ـ ما يكون له وجود حقيقي في الخارج، بحيث يكون بإزائه شيء فيه،كالإنسان، والحيوان، والبياض، ونحوها.
2ـ ما لا يكون كذلك، بل يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه، وهذا القسميسمّى بالاُمور الانتزاعيّة، وهي أيضاً على قسمين: الأوّل: ما ينتزع عنالاُمور الحقيقيّة بحيث لا يحتاج في انتزاعه إلى فرض الفارضين واعتبارالمعتبرين، كالفوقيّة، والتحتيّة، والاُبوّة، والبنوّة، ونحوها(1)، الثاني: ما ينتزععن الاعتبارات والإنشاءات، كالملكيّة، والزوجيّة، والسلطنة، والحكومة،ونحوها، فهذه أقسام ثلاثة.
والقسم الأوّل والثاني لا يقبلان الإنشاء، وما يقبله هو القسم الثالث،وحقيقة الإرادة ـ التي هي صفة من صفات النفس ـ من القسم الأوّل، فلا تقبلالإنشاء، بخلاف الطلب، فإنّ له معنى قابلاً لأن ينشأ، إذ ليس معناه سوىالبعث والتحريك نحو العمل، وكما أنّهما يحصلان بالتحريك الفعلي، بأن يأخذالطالب بيد المطلوب منه ويجرّه نحو العمل المقصود، فكذلك يحصلانبالتحريك القولي، بأن يقول الطالب: «اضرب» أو «أطلب منك الضرب» أو
- (1) هذه الاُمور قسم من الاُمور الاعتباريّة، فإنّ الاعتباريّات ما لا يكون بإزائه شيء في الخارج، سواء انتزعمن شيء موجود في الخارج، كالفوقيّة، والتحتيّة، أم لا، كالملكيّة، والزوجيّة، فالأوّل اعتباريّ انتزاعي،والثاني اعتباريّ صرف. منه مدّ ظلّه.
ج2
«آمرك بكذا» مثلاً، فقول الطالب: «افعل كذا» بمنزلة أخذه بيد المطلوب منهوجرّه نحو العمل المقصود.
والحاصل: أنّ حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الإرادة، فإنّ الإرادة منالصفات النفسانيّة، بخلاف الطلب، فإنّه عبارة عن تحريك المطلوب منه نحوالعمل المقصود: إمّا تحريكاً عمليّاً، مثل أن يأخذ الطالب بيده ويجرّه نحوالمقصود، أو تحريكاً إنشائيّاً، مثل «افعل كذا»، ولا ارتباط لهذا المعنى ـ بكلقسميه ـ بالإرادة التي هي من صفات النفس. نعم، الطلب ـ بكلا معنييه مظهر للإرادة ومبرز لها، فمن أراد من عبده تحقّق فعل خاصّ أو وجودمقدّماته بقصد التوصّل بها إلى الفعل، قد يحرّكه نحو الفعل تحريكاً عمليّاً، وقديقول له: «افعل كذا» مريداً بهذا القول تحقّق ذاك التحريك، فمفاد «افعل»تحريك تنزيلي يعبّر عنه بالطلب الإنشائي.
ولا يتوهّم ممّا ذكرنا ـ من اختلاف الطلب والإرادة مفهوماً ـ موافقتنالأشاعرة، إذ نزاع الأشاعرة مع العدليّة ـ كما بيّناه ـ ليس في اختلاف الإرادةوالطلب مفهوماً، أو اتّحادهما كذلك، بل في وجود صفة نفسانيّة اُخرى في قبالالإرادة وعدم وجودها(1)، إنتهى كلامه.
نقد كلام السيّد البروجردي رحمهالله
أقول: كلامه رحمهالله وإن كان متيناً في المغايرة المعنويّة بين الطلب والإرادة، فإنّالطلب هو البعث والتحريك عملاً وقولاً، والإرادة صفة قائمة بالنفس، إلاّ أنّما أفاده من الفرق بينهما من حيث قابليّة الإنشاء وعدمها لا يصحّ، فإنّه إنأراد تعلّق الإنشاء في باب الطلب بالبعث والتحريك العملي، فهو مردود بأنّ
(صفحه52)
البعث والتحريك العملي من الواقعيّات، ولا يتعلّق الإنشاء بها كما قال رحمهالله فيمقدّمة كلامه، وإن أراد تعلّقه بالبعث والتحريك القولي، فمضافاً إلى أنّه أيضأمر واقعي خارجي، يتوجّه إليه إشكال آخر، وهو أنّه هو البعث والتحريكالمنشأ بالقول، فلا يمكن أن يتعلّق به الإنشاء ثانياً، لاستلزامه تأخّر المنشأ عنالإنشاء مع أنّه متقدّم عليه رتبةً، وإن أراد تعلّقه بمفهوم الطلب وماهيّته، فلفرق بينه وبين الإرادة في المقام، لعدم كون ماهيّة الإرادة أيضاً أمراً واقعيّاً، فإنكان ماهيّة الطلب قابلة للإنشاء كان ماهيّة الإرادة أيضاً كذلك.
كلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام، وهو أحسن الأقوال
ومنهم: بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات، وإليك بيانه مع توضيحمنّا:
إنّ الطلب مغاير للإرادة، إذ الإرادة صفة قائمة بالنفس، والطلب فعلاختياريّ من الأفعال الجوارحيّة لغةً وعرفاً:
فإنّ اللغويّين فسّروه بـ «محاولة وجدان الشيء وأخذه».
وأهل العرف يقولون: «طالب العلم» ولم يريدوا به مجرّد من له شوق مؤكّدإلى تحصيل العلم، بل يريدون به من يسعى ويجهد في تحصيله بالفعل، وفيالحديث: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(1)، ولا ريب في أنّ المراد به إنّمهو الاشتغال بتحصيله، لا مجرّد الشوق المؤكّد إليه، وقال الفقهاء أيضاً فيمنيكون فاقداً للماء في البرّ: لا يجوز له التيمّم إلاّ بعد الفحص عن الماء إلىاليأس، ويكفي الطلب غلوة(2) سهم في الحزنة(3)، وغلوة سهمين في السهلة في
- (1) الكافي 1: 30، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، الحديث 1.
- (2) الغَلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه. م ح ـ ى.
ج2
الجوانب الأربعة، ولا إشكال في أنّ مرادهم بالطلب في هذه العبارة هو الفعلالخارجي، أعني المشي لوجدان الماء.
وبالجملة: الطلب هو فعل اختياري، إلاّ أنّه على قسمين: 1ـ ما تعلّق بفعلنفس الإنسان، كطالب الضالّة، وطالب العلم، وما شاكلهما، 2ـ ما تعلّق بفعلغيره، كأمر المولى عبده، وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الإرادة.
والطلب كالإرادة في عدم قابليّته للإنشاء، لكونه أيضاً أمراً واقعيّاً خارجيّاً،أمّا القسم الأوّل منه فظاهر، وأمّا القسم الثاني فلأنّ الأمر ـ أعني قول المولىلعبده مثلاً: «اضرب زيداً» ـ نفسه هو الطلب، لا أنّه إنشاء الطلب، فالقسمالثاني من الطلب أيضاً أمر واقعي غير قابل للإنشاء(1).
هذا حاصل كلام بعض الأعلام«مدّ ظلّه» مع توضيح منّا، وهو أحسن الأقوالفي المقام، لخلوّه عن الإشكال.
والحاصل: أنّ بين الطلب والإرادة مغايرة معنويّة، خلافاً للمحقّقالخراساني رحمهالله ، ولكنّهما يشتركان في عدم تعلّق الإنشاء بهما.
هذا تمام الكلام في مادّة الأمر.
ونحن وإن تعرّضنا لمسألة الجبر والتفويض عند تدريس الكفاية، إلاّ أنّا لنتعرّض لها هنا، خوفاً من طول الكلام.
- (1) الحَزْنة: ما غلظ من الأرض، وقلّما يكون إلاّ مرتفعاً. م ح ـ ى.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 14.
(صفحه54)
في معنى صيغة الأمر
الفصل الثاني
فيما يتعلّق بصيغة الأمر
وفيه مباحث:
المبحث الأوّل: في المعانى الّتي تستعمل فيها صيغة الأمر
ربما يذكر للصيغة معانٍ قد استعملت فيها، وقد عدّ منها الترجّي والتمنّيوالتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير إلى غير ذلك.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
وناقش فيه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
وهذا كما ترى، ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لمتستعمل إلاّ في إنشاء الطلب، إلاّ أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعثوالتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون اُخرى أحد هذه الاُمور كما لا يخفى،وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذكان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثحقيقة، وإنشائه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستعملة في التهديدوغيره(1)، إنتهى.