(صفحه464)
قلت: نعم، لكنّه لابدّ من هذا التوجيه وإن كان على خلاف الظاهر، لأنّالقول بكون العوارض المشخّصة كخصوصيّات الزمان والمكان والهيئةوغيرها أيضاً مطلوبة واضح البطلان، فلا يليق بحال العلماء الأكابر أن يبحثوفي أمرٍ أحد طرفيه ضروري البطلان.
والحاصل: أنّ النزاع في أنّ الأوامر والنواهي هل تعلّقت بنفس الطبائع أوبوجوداتها؟
ما تقتضيه القواعد في المسألة
ولا يخفى أنّهم اتّفقوا على أنّ القواعد تقتضي كونها متعلّقة بالطبائع، فإنّقوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»(1) و«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»(2) و«وَللّهِِ عَلَىالنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»(3) و«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ»(4)وأمثالها ظاهرة في التعلّق بالطبائع؛ إلاّ أنّ القائلين بالتعلّق بالوجودات قالوبلزوم رفع اليد عن هذا الظهور لوجهين:
أحدهما: ما تمسّك به المحقّق الخراساني رحمهالله لتوسيط الوجود بين الطلبوالطبائع، من قول الفلاسفة: «الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي لا مطلوبةولا غير مطلوبة». وقد عرفت جوابه.
الثاني: أنّ المحصّل لغرض المولى إنّما هو وجود الطبيعة خارجاً، إذلايشتمل غيره على الآثار المترقّبة من المأمور به، ضرورة أنّ الصلاةالموجودة ناهية عن الفحشاء والمنكر وقربان كلّ تقيّ، فيعلم أنّ الأوامر
ج2
والنواهي وإن تعلّقت ظاهراً بالطبائع، إلاّ أنّها في الواقع متعلّقة بوجوداتها،لعدم حصول الغرض إلاّ بها.
وفيه أوّلاً: أنّك قد عرفت أنّ النزاع مستقلّ عن مسألة أصالة الوجودوالماهيّة، مع أنّ صحّة هذا الوجه مبنيّة على القول بأصالة الوجود، وإلفللقائل بأصالة الماهيّة أن يعكس الأمر ويقول: إنّ الماهيّة هي محصّلة لغرضالمولى، والآثار المترقّبة من المأمور به لها، لا للوجود الذي هو أمر اعتباري.
وثانياً: أنّهم لو أرادوا تعلّق الأوامر والنواهي بالوجود الذهني الذي هومفهوم كلّي للوجود فلا وجه للعدول من «الطبيعة» إليه، ضرورة أنّه أيضاً ليحصّل غرض المولى، ولا يترتّب عليه الآثار، وإن أرادوا تعلّقها بالوجودالخارجي فهو غير معقول، لأنّ الأحكام بالنسبة إلى متعلّقاتها كالأعراضبالنسبة إلى موضوعاتها، فكما أنّ ثبوت العرض متوقّف على ثبوت المعروضقبله(1)، فكذلك الحكم لا يثبت إلاّ بعد ثبوت متعلّقه، لأنّ «ثبوت شيء لشيءفرع ثبوت المثبت له» وحينئذٍ فلو تعلّق التكليف بالوجود الثابت في الخارجكان من قبيل الأمر بتحصيل الحاصل، وهو محال على الحكيم.
ولا ينحلّ الإشكال بتبديل الوجود بالإيجاد ـ كما ارتكبه المحقّقالخراساني رحمهالله (2) ـ إذ لا فرق بين الوجود والإيجاد إلاّ بالاعتبار(3).
فوجود المأمور به في الخارج موجب لسقوط التكليف، لا ثبوته، وبعبارةاُخرى: لنا مقامان: مقام جعل التكليف وإثباته، ومقام العمل به وإجرائه، ففيمقام العمل والإجراء لابدّ من تحقّق المأمور به في الخارج، وأمّا في ظرف
- (1) ولذا صارت جملة «ثبّت العرش ثمّ انقش» مثلاً معروفاً بينهم، أي أوجد السقف ثمّ انقشه بنقوش مزيّنة،والمقصود عدم تمكّن النقّاش من تزيين السقف بالنقوش إلاّ بعد تحقّق أصل السقف. منه مدّ ظلّه.
- (3) وهو أنّ الشيء الموجود بملاحظة نفسه وجود، وبملاحظة انتسابه إلى الجاعل إيجاد. م ح ـ ى.
(صفحه466)
التقنين وجعل التكليف الذي هو متقدّم على ظرف الإجراء فلا شيء يصلحأن يكون متعلّقاً له إلاّ الماهيّة والطبيعة.
والحاصل: أنّ النزاع إنّما هو في أنّ الأوامر والنواهي هل تتعلّق بنفسالطبائع أو بوجوداتها؟ والحقّ هو الأوّل، لظهور الأدلّة فيه، من دون قرينة فيالبين تلزمنا على ارتكاب خلاف الظاهر.
ج2
(صفحه468)
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
الفصل الثامن
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
اختلفوا في أنّ الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الجواز بالمعنى الأعمّ أم لا؟
البحث في إمكان البقاء واستحالته
وينبغي أن نبحث قبل مقام الإثبات في إمكانه بحسب مقام الثبوت، فنقول:
ذهب بعضهم إلى كون الوجوب مركّباً من الإذن في الفعل والمنع من الترك،(في مكن ارتفاعه برفع فصله وإبقاء جنسه.
ولكنّ الحقّ أنّ الأحكام ليست مركّبة، فالوجوب أمرٌ بسيط منتزع عنالأمر الناشئ من الإرادة الحتميّة، والاستحباب أمرٌ بسيط منتزع عن الأمرالناشئ من الإرادة غير الحتميّة، وعلى هذا القياس سائر الأحكام.
إن قلت: الفرق بين الوجوب والاستحباب بالشدّة والضعف، إذ الأوّل هوالبعث الشديد، والثاني هو البعث الضعيف(1)، فكلّ منهما يكون مركّباً منجنس وفصل.
قلت: كلاّ، فإنّ ما به الامتياز في التشكيك بالشدّة والضعف عين ما به
- (1) أو الطلب الشديد والضعيف عند من قال بكون الوجوب والندب عبارة عن الطلب كالمحقّقالخراساني رحمهالله . م ح ـ ى.