ج2
يتعلّق بأمر استقبالي، بل هو واقع في الشريعة، كوجوب الحجّ على المستطيعقبل الموسم المسمّى بالواجب المعلّق، فإنّ الوجوب قبله حالي ولكنّ الواجباستقبالي(1).
فلا يصحّ قياس التشريع بالتكوين لإثبات وجوب الفور في امتثال الأوامرالشرعيّة.
ومنها: بعض الآيات، كقوله تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(2)،وقوله: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ»(3).
وتقريب الاستدلال بآية الاستباق أنّها ظاهرة في وجوب الاستباقإلىالخيرات التي منها الإتيان بالمأمور به، وأمّا آية المسارعة فتقريبالاستدلال بها أنّ المراد هو المسارعة إلى سبب المغفرة، لأنّ نفس المغفرة هيفعل اللّه سبحانه، ولا يعقل الأمر بالمسارعة إلى فعل الغير، وعليه فسببالمغفرة عامّ يشمل التوبة وفعل المأمور به، لأنّه أيضاً يوجب المغفرة بمقتضىقوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»(4).
ويمكن الجواب عن الاستدلال بالآيتين بوجوه:
1ـ أنّ الأمر في آية المسارعة إرشادي، فلا يستفاد منه الوجوب الشرعي،والدليل على إرشاديّته أنّ قوله تعالى: «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ»معطوف على «مَغْفِرَةٍ»، والعطف ظاهر في كون المعطوف مغايراً للمعطوفعليه غير مفسّر له، وعلى هذا فالأمر بالمسارعة إلى الجنّة إرشاد إلى حكم
- (1) لا يقال: لعلّه من قبيل ما تقدّم في التكوينيّات من إزالة تأثير النار في الحرارة.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ العلّيّة التشريعيّة ما اُزيلت هاهنا من الدليل الدالّ على وجوب الحجّ، وإلاّ لم يتعلّقحتّى بالأمر الاستقبالي ولم يؤثّر فيه. م ح ـ ى.
(صفحه168)
العقل بحسن المسارعة إليها بالإتيان بالتكاليف الشرعيّة، إذ لا يمكن القول بأنّلنا مضافاً إلى التكاليف المتعلّقة بالواجبات ـ كالصلاة والصوم ونحوهما تكليفين مولويّين آخرين: أحدهما: وجوب المسارعة إليها، والآخر وجوبالمسارعة إلى الجنّة، فتعلّق الأمر بالمعطوف في الآية إرشادي بلا إشكال، فلمحالة كان تعلّقه بالمعطوف عليه أيضاً كذلك، لعدم تكرّره، فلا يمكن إرادةالمولويّة منه بالنسبة إلى المعطوف عليه، والإرشاديّة بالنسبة إلى المعطوف.
بخلاف قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»(1) حيث إنّ الأمر الأوّلإرشادي والثاني مولوي.
هذا الجواب مختصّ بآية المسارعة، ولا يجري في آية الاستباق.
2ـ أنّ الآيتين تختصّان بالواجبات الكفائيّة.
توضيح ذلك: أنّ «سارعوا» من باب المفاعلة، وهو بين الاثنين، فلابدّ منأن يكون متعلّقه شيئاً قابلاً للمسابقة والمسارعة إليه، وهذا ينحصر فيالواجبات الكفائيّة التي تركها يوجب استحقاق الجميع للعقوبة، وفعلها ليوجب إلاّ استحقاق الفاعل فقط للمثوبة، فاللّه سبحانه أراد أن يتحقّقالمسارعة بين المكلّفين في هذه الواجبات بحيث يجتهد كلّ منهم أن يسبق إليهغيره وينال إلى ثوابها.
وآية الاستباق وإن لم تكن بهيئتها مقتضية لذلك، حيث إنّ باب الافتعال ليقتضي كون الفعل بين الاثنين، إلاّ أنّها بمادّتها تقتضيه، لأنّ السبق في مقابلاللحوق، فلا يصدق إلاّ فيما إذا كان في مقابل السابق لاحق.
لا يقال: إذا دلّت الآيتان على وجوب الفور في الواجبات الكفائيّة، فبعدمالقول بالفصل يتمّ المطلوب في الواجبات العينيّة أيضاً.
ج2
فإنّه يقال: إنّ صيغة «افعل» وإن كانت ظاهرة في الوجوب لو خلّيتوطبعها، إلاّ أنّ لنا في المقام قرينة على عدم كونها في الآيتين للوجوب، وهيأنّ وجوب المسارعة والاستباق هاهنا يستلزم أن يستحقّ كلّ من سبق غيرهإلى فعل واجب من الواجبات الكفائيّة مثوبتين: إحداهما لإطاعة الأمرالمتعلّق بنفس ذلك الواجب، والاُخرى لإطاعة الأمر المتعلّق بالمسارعةوالاستباق إليه، وهذا واضح البطلان.
فلابدّ من حمل الآيتين على الاستحباب حتّى في موردهما الذي هوالواجبات الكفائيّة. هذا أوّلاً.
وثانياً: سلّمنا دلالتهما على الوجوب، ولكن دلالتهما على الفور ممنوعة، لأنّهغير المسارعة والاستباق، ألا ترى أنّه لو مات صديقك مثلاً ولم يطّلع علىموته غيرك، ولكنّك لم تقم بتجهيزه بمجرّد اطّلاعك على موته، بل أخّرتتجهيزه ثلاثة أيّام مثلاً، لصدق على فعلك الواقع فياليوم الثالث المسارعةوالاستباق دون الفوريّة؟
وحاصل هذا الجواب الثاني: أنّ مورد الآيتين هو الواجبات الكفائيّة أوّلاً،ولا تدلاّن على الوجوب ثانياً، ولا ملازمة بين وجوب المسارعة والاستباقوبين وجوب الفور ثالثاً.
3ـ أنّه لا ريب في دلالة آية الاستباق على العموم، لأنّ «الخيرات» جمعمحلّى باللاّم، وهو يفيد العموم، ولكنّ الخيرات لا تنحصر في الواجبات، بلتعمّ المستحبّات أيضاً، ولا يمكن القول بوجوب الفور في المستحبّات، فالأمردائر بين خروجها من الآية تخصيصاً، بل خروج كثير من الواجبات، بلأكثرها، لعدم وجوب الفور فيها أيضاً، وبين حمل الأمر على الاستحباب،والأوّل يستلزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن أوّلاً، ولسان الآية آبٍ عن
(صفحه170)
التخصيص ثانياً، فلابدّ من حمل الأمر فيها على الاستحباب.
وأمّا آية المسارعة فلا تفيد العموم أصلاً، لأنّ كلمة «مغفرة» فيها نكرةموصوفة، فكأنّه قال: «وسارعوا إلى مغفرة موصوفة بأنّها من ربّكم»، ولريب في عدم دلالة النكرة الموصوفة على العموم.
إن قلت: الآية من قبيل النكرة المضافة، لما تقدّم في توجيه الاستدلال بهمن أنّ المراد «سارعوا إلى سبب المغفرة من ربّكم»، لما عرفت من أنّه لا يعقلالأمر بفعل الغير.
قلت: أوّلاً: فعل الغير على قسمين: قسم لا يرتبط بالمأمور أصلاً، فلا يعقلتعلّق الأمر به، كالخلق الذي هو فعل اللّه تعالى، ولا صلة له بالإنسان أصلاً،وقسم يرتبط به، وهذا لا مانع من تعلّق الأمر به، والمقام من قبيل الثاني، لأنّالمغفرة وإن كانت فعل اللّه سبحانه، إلاّ أنّ لها ربطاً بفعل الإنسان، فلا نحتاجعلى هذا إلى تقدير مضاف في الآية.
وثانياً: أنّ النكرة المضافة أيضاً لا تفيد العموم.
على أنّها لو كانت مفيدة له فالقدر المتيقّن منه ما إذا كان المضاف والمضافإليه كلاهما مذكورين في الكلام، وأمّا في مثل المقام الذي ظاهره من قبيلالنكرة الموصوفة وباطنه من قبيل النكرة المضافة بلحاظ اللفظ المقدّر فهليعامل معه معاملة الأولى؟ فلا يفيد العموم، أو الثانية؟ فيفيد، يحتاج إلى تأمّلفيما تقتضيه أدبيّات العرب لكي يتّضح الحال في المسألة.
ويؤيّد عدم دلالتها على العموم اختلاف المفسّرين في تفسير المغفرة، فقالبعضهم: المراد بها الصلوات اليوميّة، وقال بعض آخر: هي صلاة الجماعةوالحضور في الصفّ الأوّل منها، وقيل: هي تكبيرة الإحرام من قبل المأمومينعقيب تكبيرة الإمام، وقيل: هي الجهاد في سبيل اللّه، وفسّرها بعضهم بالتوبة،
ج2
وبعضهم بالإخلاص، إلى غير ذلك، فلو كان لها عموم لم يعدل المفسّرون عنهإلى المصاديق.
وبالجملة: لا تدلّ آية المسارعة على العموم حتّى يدّعى شمولها لجميعالواجبات ويستنتج وجوب الفور فيها.
على أنّها لو دلّت على العموم لتوجّه إليها الإشكال المتقدّم في آية الاستباق،لشمولها للمستحبّات أيضاً، لأنّها سبب للمغفرة كالواجبات(1)، فلابدّ من حملالأمر فيها على الاستحباب، وإلاّ لزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن أوّلاً،ولسان الآية آبٍ عن التخصيص ثانياً، كما تقدّم في آية الاستباق أيضاً.
ثمّ ربما استشكل على الاستدلال بآية الاستباق بأنّ فيها قرينةً عقليّةً دالّةًعلى عدم إرادة الوجوب، وهي أنّ وجوب الاستباق يستلزم عدمه، وما يلزممن وجوده عدمه فهو محال.
توضيح ذلك: أنّ الاستباق يكون بمعنى التقديم، «فاستبقوا الخيرات» أيقدّموها، وحيث إنّ تقديم شيء يلازم تأخير شيء آخر، ولم يلحظ في الآيةتقديم الخيرات على غيرها، فلا محالة اُريد تقديم بعض الخيرات على بعضهالآخر، على أنّ المكلّف أيضاً لا يقدر على غير ذلك في مقام العمل، فإنّه ليتمكّن من الجمع بين جميع الخيرات في زمن واحد، فالاشتغال ببعضها فوريوجب تحقّق سائرها في الأزمنة اللاحقة، فلم يتحقّق الاستباق بالنسبة إليها،مع أنّه لا مزيّة للخيرات السابقة على الخيرات اللاحقة، لأنّ ملاك وجوبالاستباق إنّما هو نفس الخيريّة، وهذا موجود في جميعها، فيلزم من وجوبالاستباق إلى بعض الخيرات عدم وجوب الاستباق إلى بعضها الآخر، وهو
- (1) بل لعلّ سببيّة المستحبّات لها كانت أظهر من سببيّة الواجبات، لأنّ العبد يفعل المستحبّات طوعاً، وأمّالواجبات فربما يفعلها كرهاً، خوفاً من العقاب. منه مدّ ظلّه.