(صفحه30)
وظاهره أنّ التمايز بين الوجوب والاستحباب عنده يشبه القسم الثالث،أعني التمايز بالمشخّصات الفرديّة.
وفيه أوّلاً: أنّ النزاع إنّما هو في مقام الثبوت، وما أفاده رحمهالله مربوط بمقامالإثبات، توضيح ذلك: أنّا نبحث فيما به يمتاز ماهيّة الوجوب عن ماهيّة الندبمع قطع النظر عن كونهما بحسب الوجود ناشئين عن أي شيء، ومنتزعين منأيّ مكان، وما أفاده رحمهالله لا يرتبط ببيان ماهيّتهما، بل بأنّ وجودهما منتزع عنالطلب المقترن بالمقارنات الشديدة والضعيفة، وهو وإن كان حقّاً، إلاّ أنّهخارج عن محلّ النزاع، لأنّه نظير أن يُسأل شخص عن الفرق بين البيعوالإجارة، فأجاب بأنّ الأوّل يوجد بلفظ «بعت وملّكت» والثاني بلفظ«آجرت وأكريت» من دون أن يبيّن ماهيّتهما.
وثانياً: أنّه قال باتّحاد الوجوب والندب ذاتاً، وتمايزهما بالمقارنات، فلابدّ لهمن تصوير شيء يكون ذاتهما، ولايصلح لذلك إلاّ الطلب، فكيف قال بعدمانقسامه إليهما، مع أنّه لا يشترط في الانقسام التكثير بحسب الذات، بل يصحّالانقسام بحسب العوارض والزوائد، كتقسيم الإنسان إلى العالم والجاهل، كميصحّ بحسب الذات، كتقسيم الحيوان إلى الإنسان والفرس.
فالحقّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ التمايز بينهما بالشدّة والضعف.
إشارة إلى كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام ونقده
والمحقّق العراقي رحمهالله أيضاً تبعه في ذلك، كما عرفت كلامه، وهو رحمهالله وإن أصابفي ذلك، إلاّ أنّك قد عرفت المناقشة في كلامه من جهة جعله النقصان حدّللندب من دون أن يجعل الكمال حدّاً للوجوب، ولأجل ذلك ذهب إلى أنّمقتضى الإطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي(1).
ج2
كلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في منشأ ظهور الأمر في الوجوب
ولبعض الأعلام«مدّ ظلّه» طريق آخر لإثبات الوجوب، وهو حكم العقل به،فإنّه قال: لا إشكال في تبادر الوجوب عرفاً من لفظ «الأمر» عند الإطلاق،وإنّما الإشكال والكلام في منشأ هذا التبادر، هل هو وضعه للدلالة عليه، أوالإطلاق ومقدّمات الحكمة، أو حكم العقل به؟ وجوه بل أقوال:
والصحيح هو الثالث، فإنّ العقل يدرك بمقتضى قضيّة العبوديّة والرقّيّة لزومالخروج عن عهدة ما أمر به المولى ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه،فلو أمر بشيء ولم ينصب قرينة على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه فيالخارج، قضاءً لحقّ العبوديّة، واداءً لوظيفة المولويّة، وتحصيلاً للأمن منالعقوبة، ولا نعني بالوجوب إلاّ إدراك العقل لابدّيّة الخروج عن عهدته فيما إذلم يحرز من الداخل أو من الخارج ما يدلّ على جواز تركه(1)، إنتهى.
وفيه: أنّ أوامر المولى على قسمين: حتميّ، وغير حتميّ، ولا ريب في لزومالإتيان بالمأمور به في الأوّل دون الثاني، وإذا لم يكن قرينة في البين علىأحدهما فلم يكن للعقل حكم أصلاً.
والحاصل: أنّ «الأمر» حقيقة في الوجوب، والدليل الوحيد لإثباته هوالتبادر، لما عرفت من المناقشة في سائر الأدلّة من الآيات والروايات، وفيمأفاده المحقّق العراقي وبعض الأعلام في المقام.
- (1) راجع ص25 لكي يتّضح لك مرام المحقّق العراقي رحمهالله ونقده من قبل الاُستاذ«مدّ ظلّه».م ح ـ ى.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 11.
(صفحه32)
ج2
في الطلب والإرادة
الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : الظاهر أنّ الطلب الذي يكون هو معنى «الأمر»ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلباً بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلبالإنشائي(1) الذي لا يكون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائيّاً، سواءاُنشأ بصيغة افعل أو بمادّة الطلب أو بمادّة الأمر أو بغيرها(2).
توضيح ذلك: أنّ للطلب وجوداً إنشائيّاً(3) وراء وجوده الحقيقي الذي هوأمر قائم بالنفس، محرّك للعضلات نحو المطلوب، ووراء وجوده الذهني الذيهو مفهوم الطلب القائم بالنفس(4).
ووعاء الوجود الإنشائي كما سيأتي نفس الأمر، كما أنّ وعاء الوجود
- (1) ليس لكلّ مفهوم وجود إنشائي، لعدم تحقّقه في مثل «الإنسان»، نعم، لا ينحصر الوجود الإنشائيبالاُمور الاعتباريّة فقط، لتحقّقه في بعض الاُمور الواقعيّة أيضاً، كالطلب، بل والاستفهام والتمنّيوالترجّي على ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ ما في القرآن من الاستفهام والتمنّي والترجّيعبارة عن إنشاء هذه المعاني، أي إيجادها بوجودات إنشائيّة، لعدم صحّة حملها على الحقيقي منها،لاستحالتها عليه تعالى، وتشخيص موارد الوجود الإنشائي بيد العقلاء، فهو يتحقّق في خصوص المواردالتي اعتبروها فيها لا في غيرها. م ح ـ ى.
- (3) سيأتي معنى الإنشاء وحقيقته. م ح ـ ى.
- (4) ولا يخفى عليك الفرق بين الطلب الحقيقي والذهني مع قيام كليهما بالنفس، فإنّ الأوّل ـ على ما ذهبإليه المحقّق الخراساني من اتّحاده مع الإرادة ـ عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحوالمطلوب؛ بخلاف الثاني، فإنّه مجرّد تصوّره الذهني، فربما يحضر مفهوم طلب شيء في أذهاننا من دونأن يوجد شوق إليه في أنفسنا، فيتحقّق وجوده الذهني من دون وجوده الحقيقي. منه مدّ ظلّه.
(صفحه34)
الحقيقي هو الخارج(1)، ووعاء الوجود الذهني هو الذهن.
ولا خلاف في كون الحمل شائعاً صناعيّاً في كلّ قضيّة كان موضوعهالوجود الحقيقي ومحمولها المفهوم الكلّي مع قطع النظر عن أيّ وجود، وأمّا إذكان الموضوع الوجود الذهني أو الإنشائي، والمحمول المفهوم الكلّي فقد وقعالخلاف بين صدر المتألّهين وغيره، فهو رحمهالله ذهب إلى عدم كون الحمل فيهشائعاً صناعيّاً(2) ولا أوّليّاً ذاتيّاً، بل هو قسم ثالث من الحمل، وذهب غيرهإلى كونه حملاً شائعاً.
والمحقّق الخراساني رحمهالله تبع في ذلك صدر المتألّهين، حيث قال: الظاهر أنّالطلب الذي يكون معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلببالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبمطلقاً، بل طلباً إنشائيّاً.
القول في حقيقة الإنشاء
حيث إنّ الطلب المستفاد من الأمر هو الطلب الإنشائي، فالبحث عنحقيقة الإنشاء بنحو الاختصار يناسب المقام، فنقول:
رأي المشهور حول حقيقة الإنشاء
ذهب المشهور ومنهم الشهيد الأوّل رحمهالله في قواعده إلى أنّ الإنشاء هو القولالذي يوجد به مدلوله في نفس(3) الأمر(4).
- (1) لكن خارجيّة كلّ شيء بحسبه، فخارجيّة الطلب تحقّقه في نفس الطالب. منه مدّ ظلّه.
- (2) فيعتبر في الحمل الشائع الصناعي عند صدر المتألّهين كون الموضوع فرداً حقيقيّاً للمحمول، ولا يكفيكونه مصداقاً ذهنيّاً أو إنشائيّاً. منه مدّ ظلّه.