ج2
عدم كون الوجوب للغير» يكون على هذا بمعنى أنّه ليس وجوب حتّى يكونللغير، وهو كما ترى، فإنّ أصل الوجوب محرز معلوم للمكلّف فرضاً، ولكنّهشكّ في نفسيّته وغيريّته، وإن أراد منه الموجبة المعدولة التي لا تصدق إلبوجود الموضوع، لأنّ «ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له» فإنّا لا نسلّمثبوت القيد العدمي بصرف عدم ذكر القيد الوجودي، فإنّه أيضاً يحتاج إلىالبيان كالوجودي، فإن بيّن الشارع القيد الوجودي، ثبتت الغيريّة، أو العدمي،ثبتت النفسيّة، وأمّا إذا لم يبيّنهما لا يثبت إلاّ المقسم، فأين ثبوت كون الوجوبنفسيّاً بمجرّد عدم بيان قيد الوجوب الغيري؟!
وبعبارة اُخرى: التمسّك بالإطلاق يتوقّف على مقدّمات الحكمة، وهي علىالمشهور كون المولى في مقام البيان أوّلاً، وعدم وجود القدر المتيقّن في مقامالتخاطب ثانياً، وعدم القرينة على التقييد، سواء كان القيد وجوديّاً أو عدميّاً،ثالثاً، وإذا تمّت هذه المقدّمات في المقام لا يثبت إلاّ مطلق الوجوب الذي هوالمقسم، ألا ترى أنّا لو فرضنا أنّ الكفر أمر عدمي في مقابل الإيمان الذي هوأمر وجودي، وقال المولى: «اعتق رقبةً» وتمّت مقدّمات الحكمة لما كان لناستظهار وجوب عتق رقبة كافرة بدعوى أنّ القيد العدمي لا يحتاج إلىالبيان، بل لابدّ من استنتاج وجوب عتق مطلق الرقبة؟
والحاصل: أنّ المناقشة المتقدّمة واردة على كلام صاحب الكفاية، ولا يمكندفعها بما ذكره المحقّق الاصفهاني رحمهالله .
طريق آخر لإثبات نفسيّة الواجب
نعم، في خصوص دوران أمر الواجب بين النفسيّة والغيريّة يمكن إثباتالاُولى بطريق آخر غير ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله .
(صفحه138)
توضيحه: أنّا إذا شككنا في أنّ وجوب الوضوء مثلاً هل هو نفسي أولأجل الصلاة كان لنا واجبان:
أحدهما: الوضوء، والثاني: الصلاة، وعلى تقدير كون وجوب الأوّل غيريّكان كلّ منهما مرتبطاً بالآخر، فإنّ الوضوء كان شرطاً(1) للصلاة، والصلاةمشروطة به.
فإذا قال الشارع مثلاً في دليل: «صلّوا» وفي دليل آخر «يجب عليكمالوضوء» وشككنا في كون وجوب الوضوء نفسيّاً أو غيريّاً، نتمسّك بإطلاقمادّة قوله: «صلّوا» أعني الصلاة، ونستنتج عدم كونها مشروطة بالوضوء،فيحكم العقل حينئذٍ بعدم كون الوضوء شرطاً لها، فلا يكون وجوبه غيريّاً،فكان نفسيّاً.
وهذه الاُمور الثلاثة وإن كانت لوازم عقليّة للإطلاق الذي هو من الاُصولاللفظيّة، إلاّ أنّها حجّة، إذ الذي ليس بحجّة إنّما هو اللوازم العقليّة والعاديّةالمترتّبة على الاُصول العمليّة، وأمّا الاُصول اللفظيّة التي هي من الأماراتفمثبتاتها أيضاً حجّة.
وكم من فرق بين ما اخترناه وبين ما ذهب إليه صاحب الكفاية لإثباتالنفسيّة، فإنّه تمسّك بإطلاق هيئة دليل نفس ذلك الواجب المردّد بين النفسيّةوالغيريّة، ونحن تمسّكنا بإطلاق مادّة دليل الواجب النفسي الذي يحتمل كونهمشروطاً بذلك الواجب المردّد.
لا يقال: ما ذكرته جارٍ في دوران الأمر بين التعييني والتخييري أيضاً، لأنّلنا فيه واجبين أيضاً، وربما دلّ على وجوب كلّ منهما غير ما دلّ على وجوب
- (1) والقدر المتيقّن من الواجب الغيري إنّما هو الشرط، وأمّا الجزء فكونه مقدّمة للكلّ محلّ خلاف، وعلىفرض مقدّميّته له فكون وجوبه غيريّاً أيضاً مختلف فيه، كما سيأتي في مبحث مقدّمة الواجب.منه مدّظلّه».
ج2
الآخر، وهذا الأمر ـ أعني تعدّد الدليل ـ أوجب أن نشكّ في أنّ وجوبهمتعييني يجب الإتيان بكليهما، أو تخييري يوجب الإتيان بأحدهما سقوطالآخر، فالقاعدة تقتضي أن يجري هاهنا أيضاً لإثبات التعيينيّة نظيرالاستدلال الجاري في تلك المسألة لإثبات النفسيّة، إذ لا فرق بين المسألتين فيتعدّد الواجب، وفي كون ما دلّ على وجوب كلّ منهما غير ما دلّ على وجوبالآخر، فلابدّ من أن نعامل مع الدليلين هاهنا كما عاملنا مع الدليلين هناك،ونستنتج هنا كون الوجوب تعيينيّاً، كما استظهرنا هناك كونه نفسيّاً.
فإنّه يقال: ملاك الاستدلال في تلك المسألة لم يكن مجرّد تعدّد الدليل، كييدّعى جريانه هنا أيضاً، بل كان الملاك جريان الإطلاق في مادّة دليل أحدالواجبين لإثبات نفسيّة الوجوب المستفاد من الدليل الآخر، وهذا لا يكاديجري في الشكّ في التعيينيّة والتخييريّة، لأنّ الإطلاق لو جرى فيه لجرى فيكلا الدليلين أوّلاً، لعدم الفرق بينهما(1)، والإطلاق المفروض جريانه فيهممربوط بهيئتهما(2) ثانياً، فبين المسألتين بون بعيد.
والحاصل: أنّ ما ذكرناه كان مختصّاً بالشكّ بين النفسي والغيري، ولا يجريفي الدوران بين التعييني والتخييري، ولا بين العيني والكفائي، سواء كان الدليلواحداً أم متعدِّداً.
الاستدلال بالتبادر في المقام ونقده
وذهب بعضهم إلى أنّ المتبادر من صيغة الأمر عند الإطلاق إنّما هوالوجوب النفسي التعييني العيني.
- (1) بخلاف مسألة النفسي والغيري التي يكون أحد الواجبين فيها شرطاً والآخر مشروطاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) وقد عرفت عدم صحّة التمسّك بإطلاق الهيئة في ما نحن فيه في الردّ على كلام المحقّق الخراسانيوالاصفهاني. م ح ـ ى.
(صفحه140)
وفيه: أنّه لا يمكن الالتزام بكونها مجازاً إذا استعملت في الوجوب الغيري،أو التخييري، أو الكفائي، فانظر إلى وجدانك هل تجيز أن تكون كلمات«فاغسلوا» و«امسحوا» و«اطّهّروا» و«تيمّموا» ـ في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَالَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِوَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْمَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُومَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طَيِّبا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ»(1) ـ مجازاً؟!
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأوامر المستعملة في الواجب التخييريوالكفائي.
الاستدلال بالانصراف في ما نحن فيه ونقده
وذهب بعضهم إلى أنّ مدلول الصيغة وإن كان أعمّ من الوجوب النفسيوالتعييني والعيني، إلاّ أنّها منصرفة عند الإطلاق إلى خصوص هذه الثلاثة،لكثرة استعمالها فيها.
ويرد عليه أنّ استعمال الصيغة في الوجوب النفسي ليس بأكثر من استعمالهفي الوجوب الغيري، بل الأمر بالعكس، ألا ترى أنّ المولى إذا قال لعبده:«اركب السيّارة واذهب إلى السوق واشتر اللحم» كان غير الأخير من الأوامرغيريّاً، وقد عرفت أنّ جميع الأوامر في الآية المتقدّمة آنفاً أيضاً كانت غيريّة،فأين كثرة استعمال الصيغة في الوجوب النفسي الموجبة لانصرافها إليه عندالإطلاق؟!
الاستدلال بحكم العقل في المقام ونقده
ج2
نعم، بناءً على تماميّة ما استدلّ به سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره لإثباتظهور الصيغة في أصل الوجوب، من حكم العقل بتماميّة الحجّة على العبد عندصدور البعث من المولى، فلابدّ له من الامتثال، ولا يجوز له المخالفة معتذربقوله: إنّي احتملت كونه واجباً غيريّاً، ولمّا يدخل وقت وجوب ذي المقدّمةحتّى يترشّح منه الوجوب الغيري، أو احتملت كونه واجباً تخييريّاً وأنا أتيتبعدله الآخر، أو واجباً كفائيّاً وغيري فعله، كما لا يجوز له المخالفة معتذرباحتمال كونه للندب.
فهذا الدليل كما يدلّ على أصل الوجوب بناءً على تماميّته، يدلّ أيضاً علىكون الوجوب نفسيّاً تعيينيّاً عينيّاً، ولكنّ الكلام في تماميّته، كما تقدّم في مبحثظهور الصيغة للوجوب.
وتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الواجب إذا دار أمره بين النفسيّة والغيريّةفالقاعدة تقتضي كونه نفسيّاً، وأمّا إذا دار أمره بين التعيينيّة والتخييريّة أو بينالعينيّة والكفائيّة فلا دليل لاستظهار أحد الطرفين.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة.