ج2
على الامتثال، وهذا أعني الامتثال مع عدم القدرة عليه محال ذاتي.
ثمّ أورد على نفسه بأمور وأجاب عنها، ونحن ننقل محصّل كلامه معتوضيح:
قال بعد الفقرتين المتقدّمتين من كلامه:
وتوهّم عدم الاستحالة لا في مقام الأمر ولا في مقام الامتثال، أمّا عدمها فيمقام الأمر فلأنّه لا يحتاج إلى أزيد من تصوّر الآمر الأمر ومتعلّقه أعنيالصلاة بداعي الأمر، ولا ريب في إمكان تصوّر كليهما قبل الأمر، وأمّا في مقامالامتثال فلأنّ المكلّف قادر على إتيان الصلاة بداعي أمرها في هذا المقام،لتعلّق الأمر بها قبله، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو فيحال الامتثال لا حال الأمر، واضح الفساد، ضرورة أنّه وإن كان تصوّرهكذلك بمكان من الإمكان، فيرتفع الإشكال عن مقام الأمر، إلاّ أنّه لا يرتفععن مقام الامتثال، لأنّ الأمر تعلّق بالصلاة المقيّدة بداعي الأمر فرضاً لا بذاتالصلاة وحدها، ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره، فكيفيقدر المكلّف على الإتيان بالصلاة بداعي الأمر مع أنّه لم يتعلّق بها؟
إن قلت: إذا كان الصلاة مقيّدةً مأموراً بها فنفس الصلاة أيضاً صارتمأموراً بها.
قلت: كلاّ، فإنّ ذات المقيّد والتقيّد كان كلّ منهما جزءاً تحليليّاً عقليّاً، والجزءالتحليلي العقلي لا يتّصف بالوجوب أصلاً، بل المقيّد بما هو مقيّد وجود واحدواجب بالوجوب النفسي، لأنّ التقيّد وإن كان داخلاً في المقيّد إلاّ أنّ القيدخارج عنه، كما قال في المنظومة:
«تقيّد جزء وقيد خارجي»(1).
- (1) شرح المنظومة، قسم الفلسفة: 27.
(صفحه94)
إن قلت: نعم، لكنّه إذا اُخذ قصد الامتثال شرطاً، وأمّا إذا اُخذ شطراً فلمحالة نفس الفعل الذي هو جزء الواجب فرضاً يكون متعلّقاً للوجوب، إذالمركّب ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلّق الأمر بكلّ جزء بعينتعلّقه بالكلّ، ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحّة الإتيانبأجزاء الواجب بداعي وجوبه.
قلت: يرد عليه أوّلاً: أنّ اعتبار قصد الأمر في المتعلّق بنحو الجزئيّة حتّىيتعلّق الأمر به أيضاً يستلزم تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري، وهو محال.
توضيح ذلك: أنّ اختياريّة كلّ شيء بمسبوقيّته بالإرادة، فنفس القصدوالإرادة كانت لا محالة أمراً غير اختياريّ وإلاّ كانت مسبوقة بإرادة اُخرى،فننقل الكلام إلى تلك الإرادة الثانية، فتسلسلت، فأخذ قصد الامتثال جزءًللمأمور به يستلزم تعلّق الأمر بأمر غير اختياري، وهو محال.
وثانياً: لا يمكن إتيان داعي الأمر بداعي الأمر، لاستلزامه اتّحاد المحرّكوالمتحرّك.
لا يقال: نعم، ولكن يمكن إتيان نفس الصلاة بداعي أمرها.
فإنّه يقال: إنّما يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانالكلّ بهذا الداعي، وأحد جزئي الكلّ هو داعي الأمر، وقد عرفت عدم إمكانالإتيان به بداعي الوجوب، لأنّه يوجب اتّحاد المحرّك والمتحرّك(1).
هذا حاصل ما كنّا بصدد نقله من كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
نقد كلام صاحب الكفاية
واُورد على ما أفاده في توجيه الاستحالة بوجوه:
ج2
1ـ ما جاء في كلام المحقّق البروجردي والإمام الخميني فإليك بيانهما:
الحقّ في الجواب يتوقّف على ذكر مقدّمات(1):
المقدّمة الاُولى: ما هو الداعي حقيقةً إلى طاعة المولى وإتيان ما أمر به،أمر قلبيّ راسخ في نفس العبد، يختلف بحسب تفاوت درجات العبيد واختلافحالاتهم وملكاتهم، فمنهم من رسخت في قلبه محبّة المولى والعشق إليه،وباعتبار ذلك يصدر عنه وعن جوارحه جميع ما أحبّه المولى وجميع ما أمر به،وبعضهم ممّن وجد في قلبه ملكة الشكر وصار بحسب ذاته عبداً شكوراً،وباعتبار هذه الملكة تصدر عنه إطاعة أوامر المولى لأجل كونها من مصاديقالشكر، ومنهم من وجد في قلبه ملكة الخوف من عقاب المولى، أو ملكةالشوق إلى ثوابه ورضوانه، أو رسخت في نفسه عظمة المولى وجلالهوكبرياؤه، فصار مقهوراً في جنب عظمته، وباعتبار هذه الملكة القلبيّة صارمطيعاً لأوامر مولاه.
وبالجملة: ما يصير داعياً للعبد ومحرّكاً إيّاه نحو طاعة المولى هو إحدىهذه الملكات الخمس النفسانيّة وغيرها من الملكات الراسخة.
وعلى هذا فما اشتهر من تسمية الأمر الصادر عن المولى داعياً فاسد جدّاً،ضرورة أنّ صرف الأمر لا يصير داعياً ومحرّكاً للعبد ما لم يوجد في نفسه أحدالدواعي الخمسة المذكورة، أو غيرها من الدواعي القلبيّة المقتضية للإطاعة،كما يشاهد ذلك في الكفّار والعصاة.
نعم، هنا شيء آخر، وهو أنّه بعد أن ثبتت للعبد إحدى الملكات القلبيّةالمقتضية لإطاعة المولى، وصار نفسه ـ باعتبار ذلك ـ منتظراً لصدور الأمر عن
- (1) العبارات مأخوذة من تقريرات بحث آية اللّه البروجردي رحمهالله ، لكنّ المطلب موجود أيضاً في تهذيبالإمام الخميني قدسسره بعبارة أوجز. م ح ـ ى.
(صفحه96)
المولى، حتّى يوافقه ويمتثله، يكون لصدور الأمر عن المولى أيضاً دخالة فيتحقّق الإطاعة والموافقة، فإنّه المحقّق لموضوع الطاعة ويصير بمنزلة الصغرىلتلك الكبريات.
فالداعي حالة بسيطة موجودة في النفس مقتضية للإطاعة بنحو الإجمال،والأمر محقّق لموضوعها وموجب لتحريك الداعي القلبي وتأثيره في تحقّقمتعلّقه، وما هو الملاك في عباديّة العمل ومقرّبيّته إلى ساحة المولى هو صدورهعن إحدى هذه الدواعي والملكات الحسنة، وليس للأمر بما هو أمر تأثير فيمقربيّة العمل أصلاً، فإنّ المحقّق لعباديّة العمل هو صدوره عن داعٍ إلهي، وقدعرفت أنّ ما هو الداعي حقيقةً عبارة عن الملكة القلبيّة(1). نعم، يمكن بنحوالمسامحة تسمية الأمر أيضاً داعياً، من جهة دخالته في تحقّق الطاعة عمّن وجدفي نفسه إحدى الملكات القلبيّة، وما ذكرنا واضح لمن له أدنى تأمّل.
المقدّمة الثانية: لا إشكال في أنّ الأمر المتعلّق بشيء كما يكون داعياً إلىإيجاد نفس ذلك الشيء كذلك يكون داعياً إلى إيجاد أجزائه الخارجيّة والعقليّةومقدّماته الخارجيّة، فإنّ العبد الذي وجد في نفسه إحدى الدواعي القلبيّة التيأشرنا إليها، وصار باعتبار ذلك بصدد إطاعة أوامر المولى، كما يوجد متعلّقالأمر بداعي الأمر المتعلّق به بالمعنى الذي يتصوّر لداعويّة الأمر، كذلك يوجدمقدّماته بنفس هذا الداعي، من دون أن ينتظر في ذلك تعلّق أمر بها على حدة،ويكفي في عباديّتها ومقرّبيّتها أيضاً قصد إطاعة الأمر المتعلّق بذيها، لكونها فيطريق إطاعة الأمر المتعلّق به، ولا نحتاج في عباديّة الأجزاء والمقدّمات إلىتعلّق أمر نفسي أو غيري بها، فإن لم نقل بوجوب المقدّمة تبعاً لذيها، ولم
- (1) وإن خطر ببالك أنّه خروج عن محلّ النزاع، حيث إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله بنى البحث على كون قصدالقربة بمعنى إتيان العمل بداعي الأمر، فسيأتي جوابه في ص107. م ح ـ ى.
ج2
يتعلّق بها أمر نفسي أيضاً، لكفى في عباديّتها قصد الأمر المتعلّق بذيها، بل لوقلنا بوجوب المقدّمة وتعلّق أمر غيري بها أمكن أن يقال أيضاً بعدم كفايةقصده في عباديّة متعلّقه، لعدم كونه أمراً حقيقيّاً، بل هو نحو من الأمر يساوقوجوده العدم.
والحاصل: أنّ ما اشتهر من أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه فاسد(1)، فإنّالأمر كما يدعو إلى متعلّقه يدعو إلى جميع ما يتوقّف عليه المتعلّق أيضاً،والمحقّق لعباديّتها ومقرّبيّتها أيضاً نفس الأمر المتعلّق بذيها، والسرّ في ذلك أنّالداعي الحقيقي على ما عرفت ليس عبارة عن الأمر، بل هو عبارة عن الملكةالراسخة النفسانيّة الداعية إلى الطاعة بنحو الإجمال، والأمر محقّق لموضوعهمن جهة أنّها تتوقّف على وجود الأمر خارجاً، وحينئذٍ فإذا صدر الأمر عنالمولى متعلّقاً بشيء له مقدّمات فذلك الداعي القلبي بوحدته وبساطته يوجبتحرّك عضلات العبد نحو إيجاد متعلّق الأمر بجميع ما يتوقّف عليه، وكلّ مصدر عن إحدى هذه الملكات الحسنة فهو ممّا يقرّب العبد إلى ساحة المولىمن غير فرق في ذلك بين نفس متعلّق الأمر وبين أجزائه ومقدّماته الوجوديّةوالعلميّة.
المقدّمة الثالثة: أنّ دخالة شيء في المأمور به على أنحاء: فتارةً من جهة أنّهاُخذ فيه بنحو الجزئيّة، واُخرى من جهة أخذه بنحو القيديّة، بحيث يكونالتقيّد داخلاً والقيد خارجاً، وثالثةً من جهة دخالته في انطباق عنوان المأموربه على معنونه، بأن يكون المأمور به عنواناً بسيطاً ينطبق على مجموع اُمورمتشتّتة ويكون هذا الشيء دخيلاً في انطباق هذا العنوان البسيط على هذه
- (1) وانقدح بذلك فساد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية: 95: «ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق بهلا إلى غيره» م ح ـ ى.