(صفحه104)
الكثيرة في العالم، بخلاف المحقّق الحائري رحمهالله ، فإنّه لم يقل بعدم إمكان كون قصدالقربة من مقوّمات العبادة، بل قال بأنّا لا نحتاج إليه.
إن قلت: إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله لم يقل بكون الأمر داعياً تكوينيّاً إلىالعمل، بل قال بكونه داعياً اعتباريّاً، والعمل لا يكاد يمكن أن يتخلّف عنداعيه الواقعي التكويني، ولكنّه قد يتخلّف عن داعيه الاعتباري، فلا بأسبالقول بكون الأمر داعياً إلى العمل.
قلت: الاُمور الحقيقيّة لابدّ من أن يكون عللها الداعية إليها أيضاً اُمورحقيقيّة، والصلاة التي توجد في الخارج وإن كان تركّبها من تلك الأقوالوالأفعال تركّباً اعتباريّاً، إلاّ أنّ نفسها أمر حقيقي واقعي كما هو واضح، فهيتحتاج في تحقّقها إلى داعٍ تكويني واقعي، ولا يكفيه مجرّد اعتبار شيء داعيإليها.
الوجه الثاني: أنّ ذوات الأفعال مقيّدةً بعدم صدورها عن الدواعيالنفسانيّة محبوبة عند المولى، وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمات ثلاث:
الاُولى: قد اشتهر أنّ العبادات عبارة عن إتيان الفعل بداعي أمر المولى،فهي مركّبة من أمرين: ذات الفعل، وداعي الأمر، لكن يمكن أن يقال: إنّهمركّبة من ثلاثة اُمور: 1ـ ذواتها، 2ـ عدم الدواعي النفسانيّة، 3ـ وجود داعيالأمر، ويتحقّق الملازمة بين الجزئين الأخيرين، لأنّ الفاعل المختار إذا لم يكنله داعٍ نفساني كان له داعٍ إلهي لا محالة.
هذا بناءً على كون قصد الأمر جزءً، وأمّا بناءً على كونه قيداً فالعبادة هيالصلاة المقيّدة بقيد مركّب من جزئين: أحدهما: عدم الدواعي النفسانية،والآخر داعي الأمر، وعلى هذا الفرض أيضاً كلّ واحد من جزئي القيد ملازملجزئه الآخر.
ج2
الثانية: أنّ الأمر الملحوظ فيه حال الغير تارةً يكون للغير، واُخرىيكون غيريّاً، مثال الأوّل: الأمر بالغسل قبل طلوع الفجر في شهررمضان(1)، فإنّه لا يمكن أن يكون غيريّاً مقدّمياً، لأنّه لا يعقل وجوب المقدّمةقبل وجوب ذيها، فلابدّ من أن يكون وجوب الغسل نفسيّاً، لكنّه لأجلالصوم، ومثال الثاني: الأوامر الغيريّة المسبّبة من الأوامر المتعلّقة بالعناوينالمطلوبة نفساً، فتقسيم الواجب بهذا اللحاظ يصير ثلاثيّاً، لأنّه إمّا نفسيلنفسه، أو نفسي لغيره، أو غيري.
الثالثة: أنّه لا إشكال في أنّ القدرة شرط في تعلّق الأمر بالمكلّف، ولكنهل يشترط ثبوت القدرة سابقاً على الأمر ولو رتبةً، أو يكفي حصول القدرةولو بنفس الأمر؟ الأقوى الأخير، لعدم وجود مانع عقلاً في أن يكلّف العبدبفعل يعلم بأنّه يقدر عليه بنفس الأمر.
إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعيالإلهي الذي يكون مورداً للمصلحة الواقعيّة وإن لم يكن قابلاً لتعلّق الأمر بهبملاحظة الجزء الأخير، أمّا من دون ضمّ القيد الأخير فلا مانع منه.
ولا يرد أنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير لا يكاديتّصف بالمطلوبيّة، فكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمامالقيود التي يكون بها قوام المصلحة.
لأنّا نقول: عرفت أنّه قد يتعلّق الطلب بما هو لا يكون مطلوباً فيحدّ ذاته، بل يكون تعلّق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير، والفعل المقيّد
- (1) والمثال الأوضح: الأمر بتعلّم الواجبات، فإنّه عند بعض الفقهاء والاُصوليّين نفسيّ، لما ورد من أنّه إذقيل يوم القيامة لمن ترك الواجبات: «لِمَ تركتها؟» فإن قال: ما كنت عالماً بها، قيل له: «هلاّ تعلّمت؟»فالمؤاخذة على ترك التعلّم دليل على أنّه واجب نفسي، لكنّه لأجل الغير، ضرورة أنّ تعلّمها واجبلأجل العمل بها، لا لأجل نفس التعلّم. منه مدّ ظلّه.
(صفحه106)
بعدم الدواعي النفسانيّة وإن لم يكن تمام المطلوب النفسي مفهوماً، لكنلمّا لم يوجد في الخارج إلاّ بداعي الأمر ـ لعدم إمكان خلوّ الفاعلالمختار عن كلّ داعٍ ـ يصحّ تعلّق الطلب به، لأنّه يتّحد في الخارج مع ما هومطلوب حقيقةً، كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان فإنّه لا شبهة فيجواز الأمر بإكرام الناطق، لأنّه لا يوجد في الخارج إلاّ متّحداً مع الإنسانالذي إكرامه مطلوب أصلي، وكيف كان فهذا الأمر ليس أمراً صوريّاً، بل هوأمر حقيقي وطلب واقعي، لكون متعلّقه متّحداً في الخارج مع المطلوبالأصلي.
نعم، يبقى الإشكال في أنّ هذا الفعل ـ أعني الفعل المقيّد بعدم الدواعيالنفسانيّة ـ ممّا لا يقدر المكلّف على إيجاده في مرتبة الأمر، فكيف يتعلّق الأمربه؟ وقد عرفت جوابه في المقدّمة الثالثة(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الحائري رحمهالله في الجواب الثاني.
وفيه أوّلاً: أنّ الصلاة مع كونها أهمّ الواجبات كيف يمكن القول بكون الأمرالمتعلّق بها للغير؟! ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين.
وثانياً: أنّه رحمهالله تكلّف نفسه في هذا الجواب لتصحيح أخذ داعي الأمر فيمتعلّقه، مع أنّك قد عرفت عدم كون الأمر داعياً إلى المأمور به، بل الداعي إليهإنّما هو الصفات النفسانيّة الإلهيّة، من الخوف عن العقاب، أو الطمع في الثواب،أو وجدان المولى أهلاً للعبادة، ونحوها.
وثالثاً: أنّ عدم الدواعي النفسانيّة لو كان دخيلاً في المأمور به شطراً أوشرطاً، للزم الإتيان به أيضاً بداعي الأمر، مع أنّه لا ضرورة فيه، لو لم نقلبعدم معقوليّته، بل يكفي إتيان نفس الصلاة بداعي الأمر.
ج2
كلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام
3ـ وقد تصدّى بعض الأعلام لدفع الاستحالة التي ادّعاها المحقّقالخراساني رحمهالله وغيره بوجه آخر، وذكر لتقريب مرامه مقدّمتين:
المقدّمة الاُولى: قوله: يمكن تصوير الواجب التعبّدي على أنحاء:
الأوّل: أن يكون تعبّديّاً بكافّة أجزائه وشرائطه، الثاني: أن يكون تعبّديّبأجزائه مع بعض شرائطه، الثالث: أن يكون تعبّديّاً ببعض أجزائه دونبعضها الآخر.
أمّا النحو الأوّل: فالظاهر أنّه لا مصداق له خارجاً، ولا يتعدّى عن مرحلةالتصوّر إلى الواقع الموضوعي.
وأمّا النحو الثاني: فهو واقع كثيراً في الخارج، حيث إنّ أغلب العباداتالواقعة في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة من هذا النحو، منها الصلاة مثلاً، فإنّأجزائها بأجمعها أجزاء عباديّة، وأمّا شرائطها فجملة كثيرة منها غير عباديّة،وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك، فإنّها رغمكونها شرائط للصلاة تكون توصّليّة، وتسقط عن المكلّف بدون قصد التقرّب.نعم، الطهارات الثلاث خاصّة تعبّديّة، فلا تصحّ بدونه، وأضف إلى ذلك أنّتقييد الصلاة بتلك القيود أيضاً لا يكون عباديّاً، فلو صلّى المكلّف غافلاً عنطهارة ثوبه أو بدنه ثمّ انكشف كونه طاهراً صحّت صلاته، مع أنّ المكلّف غيرقاصد للتقيّد، فضلاً عن قصد التقرّب به، فلو كان أمراً عباديّاً لوقع فاسداً،لانتفاء القربة به، بل الأمر في التقيّد بالطهارات الثلاث أيضاً كذلك، ومن هنلو صلّى غافلاً عن الطهارة الحدثيّة، ثمّ بان أنّه كان واجداً لها صحّت صلاته،مع أنّه غير قاصد لتقيّدها بها، فضلاً عن إتيانه بقصد القربة، هذا ظاهر.
(صفحه108)
وأمّا النحو الثالث: ـ وهو ما يكون بعض أجزائه تعبّديّاً وبعضها الآخرتوصّليّاً ـ فهو أمر ممكن في نفسه ولا مانع منه، إلاّ أنّا لم نجد لذلك مصداقاً فيالواجبات التعبّديّة الأوّليّة، كالصلاة والصوم وما شاكلهما، حيث إنّها واجباتتعبّديّة بكافّة أجزائها، ولكن يمكن فرض وجوده في الواجبات العَرَضيّة،وذلك كما إذا افترضنا أنّ واحداً مثلاً نذر بصيغة شرعيّة الصلاة مع إعطاءدرهم بفقير على نحو العموم المجموعي، بحيث يكون المجموع بما هو المجموعواجباً، وكان كلّ منهما جزء الواجب، فعندئذٍ بطبيعة الحال يكون مثل هذالواجب مركّباً من جزئين: أحدهما: تعبّدي، وهو الصلاة، وثانيهما: توصّلي،وهو إعطاء الدرهم، وكذلك يمكن وجوب مثل هذا المركّب بعهد أو يمين أوشرط في ضمن عقد أو نحو ذلك، فالنتيجة أنّه لا مانع من الالتزام بهذا القسممن الواجب التعبّدي إذا ساعدنا الدليل عليه. هذا من ناحية.
المقدّمة الثانية: قوله: ومن ناحية اُخرى، إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب من عدّةاُمور فبطبيعة الحال ينحلّ بحسب التحليل إلى الأمر بأجزائه، وينبسط علىالمجموع، فيكون كلّ جزء منه متعلّقاً لأمر ضمني، ومأموراً به بذلك الأمرالضمني، مثلاً الأمر المتعلّق بالصلاة ينحلّ بحسب الواقع إلى الأمر بكلّ جزءمنها، ويكون لكلّ منها حصّة منه المعبّر عنها بالأمر الضمني، ومردّ ذلك إلىانحلال الأمر الاستقلالي إلى عدّة أوامر ضمنيّة حسب تعدّد الأجزاء.
ولكن هذا الأمر الضمني الثابت للأجزاء لم يثبت لها على نحو الإطلاق، مثلالأمر الضمني المتعلّق بالتكبيرة لم يتعلّق بها على نحو الإطلاق، بل تعلّق بحصّةخاصّة منها، وهي ما كانت مسبوقة بالقراءة، وكذا الأمر الضمني المتعلّقبالقراءة، فإنّه إنّما تعلّق بحصّة خاصّة منها، وهي ما كانت مسبوقة بالركوعوملحوقة بالتكبيرة، وكذلك الحال في الركوع والسجود ونحوهما، وعلى ضوء