ج2
الاستعمال، لعدم ثبوت بناء العقلاء على جريانها في موارد الشكّ فيها.
بيان الحقّ في المسألة
فالحقّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من كونه حقيقةً في الوجوب(1).
واستدلّوا عليه بوجوه:
1ـ تبادر الوجوب عنه عند إطلاقه، وهو الدليل الوحيد لإثبات المدّعىعندنا(2).
2ـ قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»(3) فإنّ وجوبالحذر(4) على مخالفة الأمر دليل على كون «الأمر» أعني «ا ـ م ـ ر» للوجوب.
3ـ قوله تعالى خطاباً لإبليس: «مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(5) فإنّصحّة الاحتجاج عليه وتوبيخه على مجرّد مخالفة أمره تعالى متوقّفة على كونالأمر للوجوب كما هو واضح.
4ـ قوله صلىاللهعليهوآله : «لو لا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك»(6) فإنّ المشقّة علىالاُمّة إنّما هي في الأمر الوجوبي، على أنّ كلامه صلىاللهعليهوآله يدلّ على عدم صدور الأمربالسواك منه صلىاللهعليهوآله مع أنّا نعلم بصدور الأوامر الاستحبابيّة به منه صلىاللهعليهوآله فلابدّ منأن يريد هنا الأمر الوجوبي.
5ـ ما نقل أنّ بريرة لمّا طلب النبيّ صلىاللهعليهوآله منها الرجوع إلى زوجها، قالت:أتأمرني يا رسول اللّه؟ فقال: «لا، بل إنّما أنا شافع»(7) فنفى الأمر وأثبت
- (2) والتبادر أمر وجداني لا يمكن إقامة البرهان عليه. منه مدّ ظلّه.
- (4) دلالة الآية على وجوب الحذر مبنيّة على ما سيأتي من أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب. منه مدّ ظلّه.
- (6) وسائل الشيعة 2: 17، كتاب الطهارة، الباب 3 من أبواب السواك، الحديث 4.
- (7) سنن أبي داود 2: 465، كتاب الطلاق، باب «المملوكة تعتق وهي تحت حرّ أو عبد»، الحديث 2231.
(صفحه24)
الشفاعة، وهي للندب.
ويمكن المناقشة في دلالة الآيتين والروايتين بأنّها لو تمّت لا تدلّ على أزيدمن وجوب إطاعة أوامر اللّه سبحانه والنبيّ صلىاللهعليهوآله فلا يستفاد منها أنّ الأمربنفسه دالّ على الوجوب، لاحتمال كون خصوص أوامرهما كذلك، ولعلّ المحقّقالخراساني رحمهالله لأجل ذلك لم يذكرها بعنوان أدلّة مستقلّة، بل ذكرها مؤيّدةًللتبادر.
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
وأورد المحقّق العراقي أيضاً على الاستدلال بالآيتين والروايتين بأنّ المرادمعلوم، فإنّ القرائن المتقدّمة دالّة على إرادة الوجوب، والمجهول إنّما هو أنّخروج الطلب الاستحبابي عنها هل هو بنحو التخصيص أو التخصّص، وليجري أصالة الإطلاق أو العموم لإثبات الثاني، فإنّ الاُصول اللفظيّة إنّما تجريلتشخيص المراد لا لتشخيص أمر آخر مثل كون الخارج بنحو التخصّص وأنّهليس مصداقاً للعامّ(1).
وهذا إشكال متين، فلا يمكن التمسّك في المقام بمثل هذه الآيات والروايات.
ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمهالله بعد ذهابه إلى كون «الأمر» حقيقةً في الأعمّ وضعاً،قال بظهوره في خصوص الوجوب بمقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة، وذلكلأنّ الطلب الوجوبي لمّا كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي، لما في الثانيمن جهة نقص لا يقتضي المنع عن الترك، فلا جرم عند الدوران مقتضىالإطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه
- (1) نهاية الأفكار 1 و 2: 161.
ج2
من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي، فإنّه لتحديد فيه حتّى يحتاج إلى التقييد، وحينئذٍ فكان مقتضى الإطلاق بعد كونالآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلباً وجوبيّاً لا استحبابيّاً(1).
وفيه أوّلاً: أنّ هذا يقتضي أن يكون نفس الطلب أيضاً كذلك بطريق أولى،لأنّ أساس الاستدلال احتياج الطلب الاستحبابي إلى التقييد وعدم احتياجالطلب الوجوبي إليه، فلابدّ من الالتزام بأنّ المولى لو قال لعبده: «أنا أطلبمنك كذا» ولم يقم قرينة على الاستحباب لكان ظاهراً في خصوص الوجوببمقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ولا يلتزم أحد به في الطلب، بل نفسهأيضاً لا يقول به فيه.
وثانياً: أنّه يستلزم أن يكون الطلب الوجوبي الذي هو قسم من الطلبمتّحداً مع المقسم، لخلوّه عن القيد مثله، وهل هذا إلاّ تقسيم الشيء إلى نفسهوغيره(2)؟!
الفرق بين الوجوب والاستحباب
ولا بأس بصرف عنان الكلام هاهنا إلى بيان ما هو الفرق بين الوجوبوالاستحباب، ولابدّ قبل ذلك من تمهيد مقدّمة حول ما به تمايز الأشياء،فنقول:
إنّ الفلاسفة اتّفقوا على أنّ امتياز شيء عن شيء آخر قد يكون بتمامالذات، كما في الجوهر والعرض، وقد يكون ببعضها، كما في أنواع جنس واحد،وقد يكون بالمشخّصات الفرديّة، كما في أفراد نوع واحد، واختلفوا في قسم
- (1) نهاية الأفكار 1 و 2: 162.
- (2) وسيجيء في مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب جواب آخر أيضاً عن التمسّك بالإطلاق لإثباتظهور المادّة أو الصيغة في الوجوب. فراجع ص70. م ح ـ ى.
(صفحه26)
رابع(1)، وهو التمايز بالشدّة والضعف، والكمال والنقصان، فما به الامتياز في هذالقسم عين ما به الاشتراك، وما به الاشتراك عين ما به الامتياز.
والحقّ ثبوت هذا القسم، وهذا ما نعبّر عنه في المنطق بالكلّي المشكّك،ومثاله مراتب الوجود والنور والبياض ونحوها، فإنّ امتياز وجود الواجبمثلاً عن وجود الممكن بالوجود الذي يشتركان فيه، وهكذا الحال في النورالقويّ والضعيف، والبياض الشديد والضعيف.
إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال ولا خلاف في عدم كون التمايز بينالوجوب والندب بتمام الذات.
وقد يتوهّم أنّ الامتياز بينهما بجزء ذاتيهما، بأن يكونا مشتركين في الجنس،وهو طلب(2) الفعل، ويتفصّل كلّ منهما بفصل مختصّ به، وما يمكن أن يعدّ لهمفصلاً اُمور:
1ـ أنيكون الفصل للوجوب المنع منالترك، وللاستحباب الإذن في الترك.
وفيه ـ كما قال سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله ـ أنّ معنى كلمة المنع ليس إلالتحريك نحو الترك، أعني طلب الترك، فإذا اُضيف هذا إلى لفظ الترك صارحاصل معناه طلب ترك الترك، وهو عبارة اُخرى عن طلب الفعل المعدّجنساً(3)، إنتهى.
ويمكن أن يناقش فيه بوجه آخر أيضاً، وهو أنّ مفهوم الترك ممّا لا يلتفت
- (1) قال في المنظومة:
الميز إمّا بتمام الذات أو بعضها أو جا بمنضمّات
بالنقص والكمال في الماهيّة أيضاً يجوز عند الإشراقيّة
شرح المنظومة، قسم الفلسفة: 43.
- (2) هذا على مسلك المشهور من كون الوجوب والندب قسمين للطلب، وأمّا على ما سيختاره الاُستاذ«مدّظلّه» من أنّهما قسمان للبعث والتحريك الاعتباري فالجنس المشترك بينهما هو البعث والتحريك كمسيأتي في ص63. م ح ـ ى.
ج2
إليه الآمر عند الإيجاب ولا المأمور عند الاستماع، فكيف يمكن أن يكون المنعمن الترك فصلاً مقوّماً للوجوب؟!
2ـ أن يقال: إنّ الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة عندمخالفته، والاستحباب هو الطلب غير الموجب له.
وفيه: أنّ الوجوب بعد تحصّله وصيرورته وجوباً يصير موجباً لاستحقاقالعقوبة، فإيجاب الاستحقاق من لوازمه وآثاره المترتّبة عليه لا من مقوّماته،وكذلك الكلام في جانب الاستحباب.
ويشهد لذلك أنّ استحقاق العقوبة وعدمه من أحكام العقل، ولو كانا جزءًللوجوب والندب لكانا أمرين شرعيّين، لكون الوجوب والندب منالاعتبارات الشرعيّة.
3ـ أن يقال: إنّ الوجوب هو الطلب المسبوق بالإرادة الشديدة،والاستحباب هو الطلب المسبوق بالإرادة الضعيفة.
وفيه: أنّ الإرادة من العلل الباعثة على الطلب، فالإرادة الشديدة علّةللوجوب، والإرادة الضعيفة علّة للاستحباب، والمعلول بتمام ذاته متأخّر عنالعلّة، فمسبوقيّتهما بالإرادة الشديدة والضعيفة وكونهما ناشئين عنهما وإن كانحقّاً، إلاّ أنّه لا يمكن أن يكون من مقوّماتهما وأجزائهما(1)، وبعبارة اُخرى:الدليل لا يلائم المدّعى، فإنّ المدّعى هو اختلافهما في الذات، والدليل لا يثبتإلاّ اختلافهما في المنشأ.
4ـ وأضعف من هذا أن يقال: إنّ الواجب هو الطلب المسبوق بالمصلحةالملزمة، والاستحباب هو الطلب المسبوق بالمصلحة الراجحة.
- (1) نعم، تغاير العلّة يستلزم تغاير المعلول، فإنّ حرارة الماء المعلولة للنار غير حرارته المعلولة للشمسمثلاً، لكنّه لا يوجب كون التغاير ذاتيّاً، فالطلب الوجوبي غير الطلب الاستحبابي، لكون الأوّل معلولللإرادة الشديدة والثاني للإرادة الضعيفة، إلاّ أنّه لا يوجب كون التغاير بينهما ذاتيّاً. منه مدّ ظلّه.