ج2
ينحلّ الأمر المتعلّق بالمركّبات، كما لا ينحلّ الأمر المتعلّق بالبسائط، وتحقيقهذا الأمر موكول إلى مبحث مقدّمة الواجب.
وثانياً: أنّ صاحب المحاضرات تسلّم داعويّة الأمر إلى تحقّق المأمور به التيادّعاها صاحب الكفاية، ثمّ تكلّف نفسه لتصحيح أخذها في متعلّق الأمر،كالمحقّق الحائري رحمهالله ، مع أنّك قد عرفت أنّ داعويّة الأمر إلى المأمور به أمر غيرمعقول، لاستلزامها عدم تحقّق الكفر والعصيان في العالم.
في التوسّل بتعدّد الأمر لتصحيح أخذ قصد القربة في متعلقّه
على أنّ هذا الجواب مستفاد من الإشكال الأخير الذي وجّهه صاحبالكفاية إلى نفسه ثمّ أجاب عنه.
أمّا الاشكال: فهو قوله: إن قلت: نعم، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره فيالمأمور به بأمر واحد، وأمّا إذا كان بأمرين تعلّق أحدهما بذات الفعلوثانيهما(1) بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلاً كما لا يخفى، فللآمر أن يتوسّلبذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده بلا منعة(2)، إنتهى.
نعم، أحد الأمرين الذين فرضهما صاحب الكفاية متعلّق بمجموع الصلاةمثلاً، والآخر بإتيانها بداعي أمرها، وأمّا صاحب المحاضرات فذهب إلىانحلال الأمر بالصلاة إلى أمرين بالنسبة إلى كلّ جزء جزء منها، أحدهما تعلّقبالركوع مثلاً، والآخر بإتيان الركوع بداعي أمره، ولكن لا فرق أساسيّبينهما، فما أجاب به بعض الأعلام عن المحقّق الخراساني مستفاد من هذالإشكال الذي وجّهه رحمهالله إلى نفسه.
- (1) الأمر الأوّل المتعلّق بذات الفعل تعبّدي، ولكنّ الثاني المتعلّق بإتيانه بداعي أمره توصّلي. منه مدّ ظلّه.
(صفحه112)
وأمّا الجواب: فحاصل ما أفاده فيه وجهان:
1ـ أنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها من الواجباتوالمستحبّات.
2ـ أنّ الأمر الأوّل إمّا أن يكون تعبّديّاً قطعاً، أو توصّليّاً كذلك، أو نشكّ فيتعبّديّته وتوصّليّته، فعلى الأوّل لا نحتاج إلى الأمر الثاني، لأنّا إذا علمنا بكونالأمر الأوّل تعبّديّاً استقلّ العقل بلزوم إتيان متعلّقه بقصد امتثاله، وعلى الثانيلا مجال للأمر الثاني، ضرورة سقوط الأمر الأوّل بإتيان متعلّقه بدون قصدالامتثال، فلا يبقى مورد للأمر الثاني، وعلى الثالث أيضاً لا نحتاج إلى الأمرالثاني، لأنّا إذا شككنا في تعبّديّة الأوّل وتوصّليّته يحكم العقل أيضاً بلزومإتيان متعلّقه بقصد القربة، وذلك لأنّا إذا أتينا به بدونه شككنا في حصولالغرض وسقوط الأمر، ولابدّ لنا من تحصيل اليقين بحصول الغرض، فلابدّ فيصورة الشكّ أيضاً من قصد الامتثال كما إذا علمنا بتعبّديّته، فلا نحتاج في هذهالصورة أيضاً إلى الأمر الثاني(1).
نقد كلام المحقّق الخراساني في المقام
ويرد على جوابه الأوّل أوّلاً: أنّ النزاع إنّما هو في مقام الثبوت، أي فيإمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر واستحالته، وهذا الجواب مربوط بمقامالإثبات والوقوع، كما لا يخفى.
وثانياً: نمنع عدم وجود عبادة تعلّق بها أمران في الشريعة، كيف؟ وقد اُمربإقامة الصلاة في الشريعة الإسلاميّة، ونهي عن الرياء بها مثلاً، والنهي عنالرياء ونحوه عبارة اُخرى عن الأمر بقصد القربة، وإن لم يتعلّق به أمر صريح.
ج2
ويرد على جوابه الثاني أيضاً أوّلاً: أنّ الشارع لو لم يبيّن عباديّة الأمر الأوّلفالمكلّف ربما غفل عن تعبّديّته وتوصّليّته، أو قطع بتوصّليّته قطعاً مخالفللواقع، فلابدّ للشارع من تبيين كونه عباديّاً، دفعاً لغفلة المكلّف وجهلهالمركّب.
سلّمنا أنّ المكلّف في جميع التعبّديّات لا يخلو من أمرين: إمّا يقطع بعباديّتهأو يشكّ فيها، لكنّ الآراء مختلفة في الصورة الأخيرة، لأنّا إذا شككنا فيتعبّديّة أمر وتوصّليّته قال بعضهم ـ كالمحقّق الخراساني ـ بحكم العقلبالاحتياط، وقال بعض آخر بحكمه بالبراءة وعدم لزوم قصد القربة، فإذا كانالمسألة مختلفاً فيها فكيف لا نحتاج إلى أن يبيّن الشارع تعبّديّة الأمر الأوّلبأمر آخر، مع أنّه يعلم أنّ كثيراً من الفقهاء يخطأون في حكمهم بالبراءة عندالشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة؟!
وثانياً: لو فرض اتّفاق الفقهاء في الحكم بالاشتغال، ولزوم الإتيان بقصدالقربة في صورة الشكّ فلا يقتضى هذا إلاّ عدم الحاجة في الوصول إلى غرضهإلى وسيلة تعدّد الأمر ـ كما قاله المحقّق الخراساني رحمهالله ـ ولكنّه لا يقتضي استحالةصدور الأمر الثاني المتعلّق بقصد الامتثال، مع أنّ دعواه هي استحالة أخذقصد القربة في متعلّق الأمر، لا عدم الحاجة إليه، بل في الشريعة أحكاممولويّة في موارد الأحكام العقليّة القطعيّة، ألا ترى أنّ العقل يحكم عند الجميعبقبح الظلم، والشارع أيضاً نهى عنه نهياً مولويّاً يترتّب على مخالفته العقاب؟فلو كان حكم الشارع في مورد حكم العقل القطعي مستحيلاً لما حكم بحرمةالظلم، فإنّ أدلّ الدليل على إمكان الشيء وقوعه.
وليعلم في نهاية الأمر أنّه لو تمّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّالشارع لا يتمكّن من بيان قصد القربة، لا بنحو الشرطيّة أو الجزئيّة ول
(صفحه114)
بوسيلة تعدّد الأمر لما كان لنا طريق إلى عباديّة العبادات، لقصور عقولنا عنإدراكها، وانحصار الطريق إليها في بيان الشارع، فلو لم يمكن له البيان فمن أينعلمنا بعباديّة بعض الواجبات حتّى نقسّمها إلى قسمين: تعبّدي وتوصّلي؟
هذا كلّه فيما إذا كان قصد القربة بمعنى إتيان العمل بداعي أمره.
القول في قصد القربة بسائر المعاني
كلام صاحب الكفاية رحمهالله فيه
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال: هذا كلّه إذا كان التقرّب المعتبر في العبادةبمعنى قصد الامتثال، وأمّا إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونهذا مصلحة، أو له تعالى، فاعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان،إلاّ أنّه غير معتبر فيه قطعاً، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفتعدم إمكان أخذه فيه بداهةً(1)، إنتهى.
ويبدو في بادئ النظر أنّ برهانه لا يثبت دعواه، لأنّ كفاية قصد الامتثال ليقتضي عدم كفاية الاُمور الثلاثة الاُخرى وعدم اعتبارها.
ولكن يمكن أن يُجاب عنه ـ كما في بعض الحواشي ـ بأنّ واحداً منها لو كانمعتبراً لكان اعتباره إمّا بنحو التعيين أو التخيير، وبطلان الأوّل واضح،ضرورة أنّ واحداً من الاُمور الثلاثة لو اعتبر معيّناً لما كان قصد امتثال الأمركافياً في تحقّق الغرض من العبادة، مع أنّه يكفي في ذلك، وأمّا بطلان الثانيفلأنّها أو بعضها لو كانت معتبرة تخييراً لكان التخيير شرعيّاً، لأنّه لا مجالللتخيير العقلي(2) هنا، وأمّا الشرعي منه فكلّ واحد من أطرافه لابدّ من أن
- (2) التخيير العقلي هو الذي لا يحكم به إلاّ العقل، مثل ما إذا قال المولى: «جئني برجل» فإنّ العقل يحكمبأنّك أيّ رجل اخترت وجئت به إلى المولى حصل الامتثال، ومثاله في الشرعيّات هو الواجباتالموسّعة، فإنّ العقل يحكم بأنّك مخيّر بين أجزاء وقتها، ففي أيّ جزء منه أدّيتها حصل الامتثال.منه مدّ ظلّه.
ج2
يمكن تعلّق الأمر به، مع أنّك قد عرفت استحالة أخذ قصد الأمر الذي هوأحد أطراف التخيير في متعلّق الأمر.
ولعلّ قوله رحمهالله في ذيل كلامه: «لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذيعرفت عدم إمكان أخذه فيه بداهةً» إشارة إلى هذا.
نقد كلام صاحب الكفاية في المقام
ولكن ـ بناءً على تماميّة ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله لإثبات استحالة أخذقصد الامتثال في متعلّق الأمر ـ يمكن المناقشة في إمكان تعلّق الأمر بهذهالاُمور الثلاثة أيضاً شرطاً أو شطراً بعين ما ذكره هناك.
توضيح ذلك: أنّه لو كان الإتيان بالفعل بداعي حسنه مأخوذاً في متعلّقالأمر بنحو الشرطيّة لم يقدر العبد على إتيان ذات الفعل بهذا الداعي، لأنّذات الصلاة مثلاً لا تكون حينئذٍ حسنة، فإنّ الحسن إنّما هو الصلاة المقيّدةبداعي حسنها، لا ذاتها، وقس على هذا ما إذا كان قصد القربة بمعنى الإتيانبالفعل بداعي كونه ذا مصلحة ملزمة، فإنّ المصلحة إنّما هي للصلاة المقيّدةبداعي المصلحة، لا لذاتها، فكيف يمكن الإتيان بنفس الصلاة بهذا الداعي، معأنّها لا تشتمل على المصلحة؟ بل وكذلك الأمر لو كان قصد القربة بمعنى إتيانالفعل للّه تعالى، فإنّ ذات الفعل ليست مرتبطة به ومضافة إليه تعالى، بل الذييضاف إلى اللّه سبحانه ويرتبط به إنّما هوا لفعل المقيّد بأنّه له.
هذا بناءً على أخذ هذه الاُمور في المتعلّق بنحو الشرطيّة.