في الفور والتّراخي
المبحث الثامن: في الفور والتّراخي
لا يخفى عليك أنّ المراد بدلالتها على التراخي هو تقييد مدلولها به، بحيثيكون التراخي واجباً لا جائزاً، كما أنّ المراد بدلالتها على الفور أيضاً ذلك،والمراد بعدم دلالتها على أحدهما عدم كون مدلولها مقيّداً بالفور ولبالتراخي.
فما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ قضيّة إطلاقها جواز التراخي ليسقولاً به.
وجميع ما مرّ في مبحث المرّة والتكرار حول أنّ النزاع هل هو في تقييدالمادّة أو الهيئة أو الصيغة المركّبة منهما جارٍ هنا أيضاً طابق النعل بالنعل.
نعم، لا يجري هاهنا ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره في تلكالمسألة من امتناع تقييد الهيئة بالتكرار، مستدلاًّ بأنّ الشيء الواحد من جهةواحدة لا يعقل أن يتعلّق به البعث المتعدّد على نحو التأسيس، وعدم جريانهفي المقام واضح لا يحتاج إلى البيان.
وأمّا ما أفاده في آخر كلامه من أنّ تقييد الهيئة بالمرّة أو التكرار مستلزملتعلّق لحاظين مختلفين بشيء واحد فهو جارٍ في المقام أيضاً، كما يجري هنسائر المباحث المتقدّمة هناك، فلا نطيل الكلام بتكرارها.
بيان ما هو المختار في المسألة
(صفحه166)
والحقّ ما عليه المحقّقون من عدم دلالتها على الفور ولا على التراخي.
لأنّ المتبادر منها هو البعث والتحريك الاعتباري إلى الماهيّة، فلا تدلّعليهما لا بهيئتها ولا بمادّتها، ولابدّ في التقييد بأحدهما من دلالة اُخرى.
بيان أدلّة القائلين بالفور ونقده
وكلّ من ذهب إلى الفور تسلّم أيضاً عدم دلالة الصيغة عليهما لغةً، ولكنّهمأقاموا أدلّة خارجيّة لإثبات وجوب الفور في خصوص الأوامر الشرعيّة:
منها: أنّ العلل التشريعيّة كالعلل التكوينيّة طابق النعل بالنعل، فكما أنّالمعلول لا ينفكّ عن علّته التكوينيّة، فكذلك المأمور به لابدّ من إتيانه عقيبالأمر فوراً، لأنّ الأمر سبب شرعي لتحقّق المأمور به. وقد عرفت في مبحثالتعبّدي والتوصّلي أنّ هذا ما ذهب إليه المحقّق الحائري رحمهالله (1).
وفيه: أنّ تشبيه التشريع بالتكوين مطلقاً بحيث يكون وجه الشبه جميعالأوصاف الموجودة في المشبّه به لا دليل عليه، بل ممنوع، لما عرفت(2) من أنّعدم انفكاك المعلول عن علّته إنّما هو لكون العلّة التامّة كافية في تحقّقه، فليعقل الانفكاك.
نعم، قد يزيل الخالق «جلّ جلاله» علّيّتها، كما أزالها عن النار في قصّةإبراهيم عليهالسلام .
وأمّا انفكاك المعلول عن علّته مع بقاء العلّيّة فغير معقول. هذا فيالتكوينيّات.
وأمّا البعث والتحريك الاعتباري الذي هو من التشريعيّات فيمكن أن
ج2
يتعلّق بأمر استقبالي، بل هو واقع في الشريعة، كوجوب الحجّ على المستطيعقبل الموسم المسمّى بالواجب المعلّق، فإنّ الوجوب قبله حالي ولكنّ الواجباستقبالي(1).
فلا يصحّ قياس التشريع بالتكوين لإثبات وجوب الفور في امتثال الأوامرالشرعيّة.
ومنها: بعض الآيات، كقوله تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(2)،وقوله: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ»(3).
وتقريب الاستدلال بآية الاستباق أنّها ظاهرة في وجوب الاستباقإلىالخيرات التي منها الإتيان بالمأمور به، وأمّا آية المسارعة فتقريبالاستدلال بها أنّ المراد هو المسارعة إلى سبب المغفرة، لأنّ نفس المغفرة هيفعل اللّه سبحانه، ولا يعقل الأمر بالمسارعة إلى فعل الغير، وعليه فسببالمغفرة عامّ يشمل التوبة وفعل المأمور به، لأنّه أيضاً يوجب المغفرة بمقتضىقوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»(4).
ويمكن الجواب عن الاستدلال بالآيتين بوجوه:
1ـ أنّ الأمر في آية المسارعة إرشادي، فلا يستفاد منه الوجوب الشرعي،والدليل على إرشاديّته أنّ قوله تعالى: «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ»معطوف على «مَغْفِرَةٍ»، والعطف ظاهر في كون المعطوف مغايراً للمعطوفعليه غير مفسّر له، وعلى هذا فالأمر بالمسارعة إلى الجنّة إرشاد إلى حكم
- (1) لا يقال: لعلّه من قبيل ما تقدّم في التكوينيّات من إزالة تأثير النار في الحرارة.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ العلّيّة التشريعيّة ما اُزيلت هاهنا من الدليل الدالّ على وجوب الحجّ، وإلاّ لم يتعلّقحتّى بالأمر الاستقبالي ولم يؤثّر فيه. م ح ـ ى.