(صفحه116)
وكذلك الأمر بناءً على أخذها فيه بنحو الجزئيّة، فإنّ الإشكال المهمّ الذيذكره المحقّق الخراساني رحمهالله لإثبات استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه ـ وهومسألة اتّحاد المحرّك والمتحرّك ـ يجري هنا أيضاً.
توضيح ذلك: أنّ داعي الحسن لو اُخذ في متعلّق الأمر بنحو الجزئيّة فلابدّمن إتيانه أيضاً بداعي الحسن، كذات العمل، مع أنّه لا يعقل أن يكون الحسنداعياً إلى داعويّة نفسه، وكذا لو كان قصد القربة بمعنى الإتيان بالفعل بداعيمصلحته، أو للّه تعالى، لأنّ المصلحة أيضاً لا يعقل أن تكون داعية إلى داعويّةنفسها، وكذا لا يعقل أن يكون «للّه» داعياً إلى داعويّة نفسه.
والحاصل: أنّه لو تمّ كلام المحقّق الخراساني رحمهالله فلا فرق فيه بين كون قصدالقربة بمعنى قصد الامتثال أو بمعنى أحد هذه الاُمور الثلاثة، فإنّ الدليل الذيأقامه لإثبات الاستحالة يقتضي استحالة أخذ الجميع في متعلّق الأمر.
ولا يخفى عليك أنّا إنّما ندّعي عدم الفرق بينهما بالنسبة إلى كلام صاحبالكفاية رحمهالله ، وأمّا بالنسبة إلى أدلّة غيره من القائلين بالاستحالة فيمكن أنيتحقّق الفرق بينهما، فيقتضي أدلّتهم استحالة أخذ قصد القربة بمعنى الامتثالفي متعلّق الأمر، لا بمعنى أحد هذه الاُمور.
والحاصل ـ بعدما عرفت من بطلان جميع أدلّة القائلين بالاستحالة ـ : أنّهيمكن أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر، سواء كان بمعنى قصد الامتثال، أوبمعنى آخر.
حكم موارد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة
المسألة الثالثة: أنّه إذا شكّ في تعبّديّة واجب وتوصّليّته فهل لنا طريق إلىأحدهما أم لا؟في موارد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة
ج2
وهاهنا مقامان من البحث:
المقام الأوّل: في وجود الأصل اللفظي في المسألة(1)
كلام صاحب الكفاية في ذلك
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصدالامتثال في المأمور به أصلاً، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه(2) ـ ولو كان مسوقفي مقام البيان ـ على عدم اعتباره كما هو واضح من أن يخفى، فلا يكاد يصحّالتمسّك به إلاّ فيما يمكن اعتباره فيه، فانقدح بذلك أنّه لا وجه لاستظهارالتوصّليّة من إطلاق الصيغة بمادّتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه ممّهو ناشٍ من قبل الأمر من إطلاق المادّة في العبادة لو شكّ في اعتباره فيها.
نعم، إذا كان الآمر في مقامٍ بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه،وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره، ومعه سكت في المقام ولم ينصب دلالةًعلى دخل قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله فيغرضه، وإلاّ لكان سكوته نقضاً له وخلاف الحكمة، فلابدّ عند الشكّ وعدمإحراز هذا المقام من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقلّ به العقل(3)، إنتهى
- (1) ولا يخفى أنّ هذا البحث مبنيّ على كون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ، لأنّ الصحيحي لا يتمكّن أصلاً منالتمسّك بالإطلاق لرفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته أو شرطيّة ما شكّ في شرطيّته، ولكنّ القائلين بالأعمّـ ومنهم صاحب الكفاية رحمهالله ـ يتمكّنون منه إذا لم يكن ذلك المشكوك من قبيل قصد القربة، وأمّا إذا كان منقبيله فاختلفوا، فذهب بعضهم إلى إمكان التمسّك به أيضاً، وبعض آخر كالمحقّق الخراساني رحمهالله إلى عدمالتمكّن، كما ترى في كلامه هنا. هذا ما استفدته من ضمّ ما أفاده الاُستاذ المحاضر هنا إلى ما اختاره فيمبحث ثمرة الصحيح والأعمّ. م ح ـ ى.
- (2) وذلك لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل تقابل العدم والملكة عند صاحب الكفاية، فالإطلاقعبارة عن عدم التقييد فيما من شأنه أن يكون مقيّداً، والمقام ليس كذلك على ما اختاره رحمهالله من استحالةأخذ قصد القربة في متعلّق الأمر. منه مدّ ظلّه.
(صفحه118)
كلامه في هذا المقام.
وحاصله: أنّه لا يكاد يصحّ التمسّك بالإطلاق اللفظي في موارد الشكّ فيالتعبّديّة والتوصّليّة لاستظهار التوصّليّة، لكن يصحّ إثباتها في هذه الموارد منطريق الإطلاق المقامي لو اُحرز، ولو لم يحرز، سواء اُحرز عدمه أو كانمشكوكاً فيه لكان المرجع هو الاُصول العمليّة.
الفرق بين الإطلاق اللفظي والمقامي
والفرق بين الإطلاقين في ثلاثة اُمور:
الأوّل: أنّ الإطلاق اللفظي مربوط باللفظ، والمقامي بمقام كون المتكلّمبصدد بيان كلّ ما له دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في متعلّقأمره.
الثاني: أنّ المولى في الإطلاق اللفظي في مقام الإنشاء، وإن كان كلامهبصورة الإخبار، كما في قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور»(1)، فإنّه يكون بمعنى«يشترط الطهور في الصلاة»، لأنّ المولى في الإطلاقات اللفظيّة في مقام بيانالحكم، فلا محالة يكون كلامه إنشاءً واقعاً وإن كان في قالب الإخبار أحياناً،بخلاف الإطلاق المقامي، فإنّ المولى فيه ـ بما أنّه عالم بحقائق الاُمور ـ يكون فيمقام الإخبار وبيان ما له دخل في غرضه.
الثالث: أنّه كما نتمسّك بالإطلاق اللفظي فيما إذا أحرزنا كون المولى في مقامالبيان كذلك نتمسّك به عند الشكّ في ذلك، بخلاف الإطلاق المقامي، فإنّه ليجوز التمسّك به إلاّ إذا اُحرز كونه بصدد بيان جميع ما له دخل في غرضه،
- (1) وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
ج2
وذلك لأنّ بناء العقلاء ـ عند الشكّ ـ على كونه في مقام البيان في الإطلاقاللفظي دون المقامي.
نظريّة المحقّق الحائري رحمهالله في المقام
و نقل سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره كلاماً عن المحقّق الحائري، حيثقال:في موارد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة
ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة «أعلى اللّه مقامه» بعدما كان بانياً على جواز أخذقصد القربة في متعلّق الأمر، وأنّ الأصل في الأوامر كونها توصّليّة، رجع فيأواخر عمره الشريف إلى أصالة التعبّديّة، وبه عدل عن كثير من مبانيهالسابقة، وملخّص ما أفاده مبني على مقدّمات:
منها: أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بنفس الطبائع، أي المفاهيم الكلّيّة اللابشرطيّةالعارية عن كلّ قيد، لا بصرف الوجود، أو الوجود السعي(1).
ومنها: أنّ العلل التشريعيّة كالعلل التكوينيّة طابق النعل بالنعل، فكلّ مهو من مقتضيات الثانية يكون من مقتضيات الاُولى أيضاً، كتكثّر المعلولبتكثّر علّته، وكعدم انفكاك المعلول عنها، وغير ذلك، وعلى ذلك بنى قدسسره القولبعدم التداخل في الأسباب الشرعيّة.
وأمّا كفاية غسل واحد عقيب جنابات متعدّدة متعاقبة فلدلالة دليلخاصّ شرعي على التداخل في مثل هذا المورد، وإلاّ فالقاعدة كانت تقتضيلزوم تعدّد الأغسال بتعداد الجنابات.
وبنى على ذلك أيضاً القول بظهور الأمر في الفور ودلالته على المرّة، فإنّ
- (1) صرف الوجود: عبارة عن أصل وجود الطبيعة، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر، والوجود السعي:عبارة عن الوجود الساري في جميع مصاديقها. منه مدّ ظلّه.
(صفحه120)
المسبّبات التكوينيّة تتحقّق عقيب أسبابها فوراً، ولا يمكن أن يصدر من سببواحد إلاّ مسبّب واحد، فالمأمور به أيضاً الذي هو مسبّب شرعي عن الأمرلابدّ من أن يتحقّق فوراً، ولا يكون الأمر سبباً لتحقّقه أكثر من مرّة، كما فيالتكوينيّات طابق النعل بالنعل.
ومنها: أنّ القيود بعضها يمكن أخذها في المتعلّق على نحو القيديّة اللحاظيّة،كالطهارة والسورة، فإنّ الآمر يتمكّن من أن يقول: «صلِّ مع الطهارة» أو«صلِّ مع السورة»، وبعضها لا يمكن أخذها في المتعلّق وتقييده بها، إلاّ أنّه لينطبق إلاّ على المقيّد، بمعنى أنّ له ضيقاً ذاتيّاً لا يتّسع غيره، كمقدّمة الواجببناءً على وجوبها، فإنّ المأمور به بالأمر الغيري ليس هو المقدّمة مطلقاً،موصلة كانت أم لا، لعدم الملاك فيها، ولا المقدّمة المقيّدة بكونها موصلة،وذلك لأنّه ليس المراد بالإيصال لحاظه ذهناً، بل المراد الإيصال الخارجي، أيترتّب ذي المقدّمة عليها خارجاً، ولا يعقل تقيّد المقدّمة بهذا الترتّب الخارجيثمّ تعلّق الأمر بهذا المقيّد بما هو مقيّد، فالواجب بالوجوب الغيري ليس هوالمقدّمة مطلقاً، ولا المقدّمة المقيّدة بالإيصال، ولكنّه لا ينطبق إلاّ على المقدّمةالموصلة، وكالعلل التكوينيّة، فإنّ تأثيرها ليس في الماهيّة المطلقة ولا المقيّدةبقيد المتأثّر من قبلها، فإنّها ممتنعة، بل في الماهيّة التي لا تنطبق إلاّ على المقيّدبهذا القيد، كالنار، فإنّ معلولها ليست الحرارة المطلقة، سواء كانت متولّدة عنهأم لا، ولا المقيّدة بكونها من علّتها التي هي النار، لكنّها لا تؤثّر إلاّ في المعلولالمنطبق على المخصوص.
إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول: إنّ المأمور به ليس إلاّ نفس الطبيعة القابلةللتكثّر بحكم المقدّمة الاُولى، كما أنّ المبعوث إليه ليست الصلاة المطلقة، سواءكانت مبعوثاً إليها بهذا الأمر أم بغيره، لعدم ترتّب الغرض عليها، ولا المقيّدة