ج2
الثاني قال بتعلّقهما بالطبائع.
وفيه أوّلاً: أنّا نمنع كون المصدر مادّة للمشتقّات، بل هو أيضاً مثلها مركّبمن مادّة وهيئة، ولكلّ منهما معنى خاصّ كما تقدّم ذلك في بعض المباحثالسابقة.
وثانياً: أنّه يستلزم أن لا يجري النزاع إلاّ في خصوص الأحكام المستفادةمن صيغتي الأمر والنهي، مع أنّه أعمّ منها ومن الأحكام المستفادة من الألفاظالاُخر، كقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَ...»(1) و«كُتِبَ عَلَيْكُمُالصِّيَامُ»(2) و«وَللّهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»(3) ونحوها، والعلماء وإن عبّروبالأوامر والنواهي في عنوان البحث إلاّ أنّ مرادهم بهما جميع الأحكام(4)، لخصوص ما يستفاد منهما كما لا يخفى.
وثالثاً: أنّه يستلزم كون النزاع متفرّعاً على مسألة لغويّة كالاحتمال الثالث،وهي أنّ الواضع هل اعتبر الوجود في المصدر الذي يكون مادّة للأمر والنهيأو لا، فالنزاع مبنيّ علىبحث لغويوضعي، وقد عرفت كونه بحثاً عقليّاً صرفاً.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في تحرير محلّ النزاع
الخامس: ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ المراد بالطبائع وجودها السعيّ،وبالأفراد وجودات الطبائع مع تشخّصاتها الفرديّة بحيث تكون التشخّصاتأيضاً مطلوبة(5).
والذي دفعه على إضافة كلمة «الوجود» وتفسير التعلّق بالطبائع بالتعلّق
- (4) سواء لم يكن مدلول لفظ، أو اُستفيد من الأمر والنهي، أو من لفظ آخر غيرهما. م ح ـ ى.
(صفحه462)
بوجودها إنّما هو قول الحكماء: «الماهيّة من حيث هي هي ليست إلاّ هي، لمطلوبة ولا غير مطلوبة»، فلا يمكن تعلّق الطلب بها كي تصير مطلوبة، فلابدّمن تعلّقه بوجودها السعيّ.
نقد ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّه خلط ـ كما قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره (1) ـ بين مقامالذات والذاتيّات وبين الخارج، فإنّ تلك القاعدة المسلّمة الفلسفيّة مربوطةبمقام ذات الماهيّة، بمعنى أنّها في ذاتها ليست إلاّ نفسها، لا تكون مطلوبة ولغير مطلوبة ولا أيّ شيء آخر، أي لا تكون المطلوبيّة ولا عدمها عين ذاتالماهيّة ولا جزءً منها، ولكنّها لا تخلو من إحداهما خارجاً، لأنّ ارتفاعالنقيضين في ظرف الخارج محال، وبعبارة اُخرى: المطلوبيّة ليست ذاتيّةللماهيّة، لكنّها قد تعرضها فتتّصف الماهيّة بها، وبعبارة ثالثة: قولهم: «الماهيّةمن حيث هي ليست إلاّ هي» يكون بمعنى أنّه لا تحمل عليها المطلوبيّة ولغيرها بالحمل الأوّلي، فلا يقال: «الصلاة مطلوبة» أو «غير مطلوبة» بالحملالأوّلي، لأنّ هذا الحمل حاكٍ عن الاتّحاد بين الموضوع والمحمول بحسبالماهيّة(2)، وهو منتفٍ هاهنا، لكنّه ليس بمعنى عدم إمكان حمل المطلوبيّة عليهبالحمل الشائع الذي ملاكه الاتّحاد بحسب الوجود.
ومن قال بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع لا يريد أنّها مطلوبة في مقامذاتها وبالحمل الأوّلي، بل يريد كونها كذلك خارجاً وبالحمل الشائع كما ليخفى.
- (1) تهذيب الاُصول 1: 494.
- (2) بل ذهب بعضهم إلى لزوم الاتّحاد في المفهوم أيضاً. منه مدّ ظلّه.
ج2
على أنّ كلامه رحمهالله متضمّن لتناقض ظاهر؛ لأنّ استناده لما ذهب إليه منتوسيط الوجود بين الطلب والماهيّة بما ذكره الفلاسفة من أنّ «الماهيّة منحيث هي هي ليست إلاّ هي» يقتضي بطلان إضافة الوجود أيضاً إليها، لأنّالماهيّة من حيث هي كما لا تكون مطلوبة ولا غير مطلوبة، كذلك لا تكونموجودة ولا غير موجودة كما اعترف به المحقّق الخراساني رحمهالله أيضاً، فلا وجهللجمع بين قولنا: الماهيّة من حيث هي ليست موجودة ولا معدومة، وبينقولنا: الماهيّة موجودة، إلاّ مسألة الاختلاف في الحمل، وبها يمكن أيضاً الجمعبين عدم كون الماهيّة من حيث هي مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبين كونهمطلوبة.
فلا ملزم للقائلين بتعلّق الأحكام بالطبائع على توسيط الوجود بينهما.
بيان الحقّ في تحرير محلّ النزاع
فالحقّ أنّ المراد بالطبائع نفسها وبالأفراد وجودات الطبائع(1).
إن قلت: تفسير الأفراد بالوجودات خلاف الظاهر كما تقدّم في ردّ الاحتمالالأوّل، لأنّ الفرد عبارة عن وجود الطبيعة المتشخّص بالتشخّصات الفرديّة،والوجود لا يحكي عن التشخّصات، بل هو عبارة عن مجرّد وجود الطبيعة(2).
- (1) قلت للاُستاذ«مدّ ظلّه» في مجلس الدرس: ما الفرق بين هذا الوجه الذي اخترتموه وبين الاحتمال الأوّلالذي ناقشتم فيه؟ فقال: الفرق بينهما أنّا لم نفرّع النزاع في المقام على مسألة أصالة الوجود والماهيّة، بللاحظناه مسألة مستقلّة، بخلاف الاحتمال الأوّل، فإنّه مبنيّ على تلك المسألة الفلسفيّة كما تقدّم، ولأجلتوجيه هذا التفريع قلنا هناك: لابدّ من أن يكون المراد بالأفراد، الوجودات لكي يكون النزاع متفرّعاً علىمسألة أصالة الوجود والماهيّة، وإلاّ فلم يتحقّق التفرّع عليها الذي هو المدّعى في ذلك الاحتمال. م ح ـ ى.
- (2) إن قلت: لا يمكن أن توجد ماهيّة إلاّ مع العوارض المشخّصة، فلا فرق بين الوجود والفرد.
قلت: نعم، ولكنّ الفرق في مقام الحكاية، فقضيّة «زيد فرد من الإنسان» حاكية عن كون زيد وجودالإنسان وكونه متشخّصاً بالتشخّصات الفرديّة، وأمّا إذا قلنا: «زيد وجود الإنسان» فهو لا يحكي إلاّ عنمجرّد كونه وجوده، ولا يجب في صدق القضايا كونها حاكية لجميع ما هو متحقّق في الخارج، وإلاّ كانقولك: «جائني رجل» فيما إذا جاءك زيد كاذباً، مع أنّه صادق بالضرورة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه464)
قلت: نعم، لكنّه لابدّ من هذا التوجيه وإن كان على خلاف الظاهر، لأنّالقول بكون العوارض المشخّصة كخصوصيّات الزمان والمكان والهيئةوغيرها أيضاً مطلوبة واضح البطلان، فلا يليق بحال العلماء الأكابر أن يبحثوفي أمرٍ أحد طرفيه ضروري البطلان.
والحاصل: أنّ النزاع في أنّ الأوامر والنواهي هل تعلّقت بنفس الطبائع أوبوجوداتها؟
ما تقتضيه القواعد في المسألة
ولا يخفى أنّهم اتّفقوا على أنّ القواعد تقتضي كونها متعلّقة بالطبائع، فإنّقوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»(1) و«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»(2) و«وَللّهِِ عَلَىالنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»(3) و«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ»(4)وأمثالها ظاهرة في التعلّق بالطبائع؛ إلاّ أنّ القائلين بالتعلّق بالوجودات قالوبلزوم رفع اليد عن هذا الظهور لوجهين:
أحدهما: ما تمسّك به المحقّق الخراساني رحمهالله لتوسيط الوجود بين الطلبوالطبائع، من قول الفلاسفة: «الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي لا مطلوبةولا غير مطلوبة». وقد عرفت جوابه.
الثاني: أنّ المحصّل لغرض المولى إنّما هو وجود الطبيعة خارجاً، إذلايشتمل غيره على الآثار المترقّبة من المأمور به، ضرورة أنّ الصلاةالموجودة ناهية عن الفحشاء والمنكر وقربان كلّ تقيّ، فيعلم أنّ الأوامر
ج2
والنواهي وإن تعلّقت ظاهراً بالطبائع، إلاّ أنّها في الواقع متعلّقة بوجوداتها،لعدم حصول الغرض إلاّ بها.
وفيه أوّلاً: أنّك قد عرفت أنّ النزاع مستقلّ عن مسألة أصالة الوجودوالماهيّة، مع أنّ صحّة هذا الوجه مبنيّة على القول بأصالة الوجود، وإلفللقائل بأصالة الماهيّة أن يعكس الأمر ويقول: إنّ الماهيّة هي محصّلة لغرضالمولى، والآثار المترقّبة من المأمور به لها، لا للوجود الذي هو أمر اعتباري.
وثانياً: أنّهم لو أرادوا تعلّق الأوامر والنواهي بالوجود الذهني الذي هومفهوم كلّي للوجود فلا وجه للعدول من «الطبيعة» إليه، ضرورة أنّه أيضاً ليحصّل غرض المولى، ولا يترتّب عليه الآثار، وإن أرادوا تعلّقها بالوجودالخارجي فهو غير معقول، لأنّ الأحكام بالنسبة إلى متعلّقاتها كالأعراضبالنسبة إلى موضوعاتها، فكما أنّ ثبوت العرض متوقّف على ثبوت المعروضقبله(1)، فكذلك الحكم لا يثبت إلاّ بعد ثبوت متعلّقه، لأنّ «ثبوت شيء لشيءفرع ثبوت المثبت له» وحينئذٍ فلو تعلّق التكليف بالوجود الثابت في الخارجكان من قبيل الأمر بتحصيل الحاصل، وهو محال على الحكيم.
ولا ينحلّ الإشكال بتبديل الوجود بالإيجاد ـ كما ارتكبه المحقّقالخراساني رحمهالله (2) ـ إذ لا فرق بين الوجود والإيجاد إلاّ بالاعتبار(3).
فوجود المأمور به في الخارج موجب لسقوط التكليف، لا ثبوته، وبعبارةاُخرى: لنا مقامان: مقام جعل التكليف وإثباته، ومقام العمل به وإجرائه، ففيمقام العمل والإجراء لابدّ من تحقّق المأمور به في الخارج، وأمّا في ظرف
- (1) ولذا صارت جملة «ثبّت العرش ثمّ انقش» مثلاً معروفاً بينهم، أي أوجد السقف ثمّ انقشه بنقوش مزيّنة،والمقصود عدم تمكّن النقّاش من تزيين السقف بالنقوش إلاّ بعد تحقّق أصل السقف. منه مدّ ظلّه.
- (3) وهو أنّ الشيء الموجود بملاحظة نفسه وجود، وبملاحظة انتسابه إلى الجاعل إيجاد. م ح ـ ى.