ج2
الطلب، لتكون داعية إلى الأمر ولا يلزم محذور اللغويّة.
وفيه: أنّ المولى إذا قال لعبده: «جئني بالماء» وأراد به تحقّق المأمور به فيالخارج، لا الاختبار أو الاعتذار كان جميع الحقائق الموجودة في الجملالخبريّة موجودة فيه سوى المطابقة للواقع وعدمها، وسوى الحالات الثلاثالقائمة بنفس المتكلّم، أعني علمه بالمطابقة أو بالمخالفة أو شكّه فيهما، فإنّهذين الأمرين يختصّان بالخبر ولا يجريان في الإنشاء.
وبالجملة: غير هذين الأمرين من الاُمور الحقيقيّة الموجودة في الجملةالخبريّة موجودة في هذه الجملة الإنشائيّة أيضاً، وقد عرفت عدم صلاحيّةواحد منها لأن يسمّى كلاماً نفسيّاً، ومراجعة الوجدان قاضية بعدم أمر آخرحقيقي قائم بالنفس، بل يكفينا الشكّ فيه، فإنّ إقامة الدليل على من قالبثبوته، وهم الأشاعرة، وأمّا نحن فحسبنا عدم الدليل على ثبوته.
وأمّا الأوامر الاختباريّة والاعتذاريّة فهي وإن كانت فاقدة للإرادة، إلاّ أنّالأولى صادرة بداعي الاختبار والثاني بداعي الاعتذار، فلا يلزم اللغويّة.
وبالجملة: الداعي على صدور الأمر تارةً يكون تحقّق المأمور به، واُخرىغيره، كالاختبار والاعتذار، ولا ملزم للقول بكون الداعي أمراً متّحد المآل فيجميع الأوامر، فدعوى ثبوت أمر آخر يسمّى طلباً وكلاماً نفسيّاً فاسدة.
ومنها(1): قول الشاعر:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
|
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
|
وفيه أوّلاً: أنّ قول الشاعر ليس بحجّة علينا، لعدم كونه معصوماً، ولعلّه كانمن الأشاعرة، وثانياً: أنّه لا ظهور له فيما ادّعوه، إذ كلّ كلام كاشف عن معنىقائم بالنفس من العلم في الأخبار، والتمنّي والترجّي والاستفهام الحقيقيّة في
- (1) هذا الدليل يعمّ الجمل الخبريّة والإنشائيّة كلتيهما. منه مدّ ظلّه.
(صفحه46)
تلك الصيغ، والإرادة في الأوامر والنواهي، إلى غير ذلك، ويحتمل أن يكونمراد الشاعر هذا المعنى وأنّ اللسان كاشف عن تلك الصفات.
والذي دعا الأشاعرة إلى القول بالكلام النفسي هو تصحيح متكلّميّتهتعالى.
توضيحه: أنّه لا ريب في صدق عنوان المتكلّم عليه تعالى، وهو لفظمشتقّ، وقد تقدّم في مبحث المشتقّ أنّهم قالوا بلزوم قيام المبدء بالذات قيامحلوليّاً في صدق المشتقّ حقيقةً، فلو كان كلامه تعالى من قبيل الأصوات كانحادثاً، وهو مستلزم لكونه محلاًّ للحوادث، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلمحالة كان كلامه نفسيّاً قديماً.
وفيه: ما تقدّم في مبحث المشتقّ من فساد هذا المبنى، فإنّه لا دليل لهم علىلزوم كون القيام حلوليّاً في صدق المشتقّ بنحو الحقيقة، على أنّ كثيراً منالمشتقّات كالضارب والمؤلِم ليس كذلك كما هو واضح، بل المبدء في بعضها أمراعتباريّ ليس بإزائه شيء في الخارج حتّى يحلّ في الذات، كالمالك والزوج،فهل هم يلتزمون بأنّ صدق هذه المشتقّات بالعناية والتجوّز؟!
فالمشتقّ كما تقدّم في مبحثه على أنحاء، فإنّ المبدء تارةً يكون حالاًّ فيالذات، كالأبيض، واُخرى صادراً عنه، كالضارب، وثالثةً غير ذلك، كالمالك.
بل قد يكون المبدء عين الذات، كما في صفاته تعالى الذاتيّة.
بل قد لا يكون له مبدء بالمعنى الحدثي المصدري، كما في مثل اللاّبن والتّامروالعطّار والبقّال، فلابدّ من أن يعتبر المبدء، وهو اللّبن والتمر والعطر والبقل،بمعنى بيع التمر واللبن وهكذا.
فأين تحقّق القيام الحلولي في جميع المشتقّات؟!
ولا يخفى أنّ عنوان «المتكلّم» يكون من قبيل القسم الأخير من المشتقّات،
ج2
فإنّه نظير عنوان «العطّار» و«البقّال» في عدم مبدء له بالمعنى المصدري منالثلاثي المجرّد، فإنّ «الكلم» بمعنى الجرح، فلا يكون مبدءً للمتكلّم، فلابدّ منأن يكون نفس «التكلّم» بمعنى إيجاد الكلام مبدءً له، كما أنّ العطر بمعنى بيعالعطر كان مبدءً لعنوان العطّار، فالمتكلّم بهذا المعنى أي بمعنى «موجد الكلام»يطلق على اللّه وعلى الناس من غير فرق وجداناً بين الإطلاقين، إلاّ أنّ إيجادالكلام في الناس بسبب اللسان، وفيه تعالى بواسطة الشجرة والحصاةونحوهما، على ما ذهب إليه المعتزلة(1).
التكلّم من صفات فعله سبحانه
وفي الكتاب والسنّة شواهد على كون التكلّم من صفات فعله تعالى، لا منصفات ذاته:
1ـ قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما»(2) فإنّه ظاهر في أنّ اللّه تعالىكلّم موسى في زمان دون زمان آخر، ولم يكلِّم غيره عليهالسلام في حال تكلّمه معه،وهاتان الخصوصيّتان ترتبطان بصفات فعله تعالى، وأمّا صفات ذاته فهو لتتّصف بنقيضها أصلاً، وهي قديمة عامّة لجميع الأشياء في جميع الحالات، كمتقدّم في أوائل هذا البحث(3).
2ـ حسنة(4) أبي بصير عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعت أبا عبداللّه عليهالسلام يقول:«لم يزل اللّه عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع(5) ذاته ولا مسموع،
- (1) ولو قيل: يمكن اتّخاذ لفظ «الكلام» مبدءً للمتكلّم. قلنا: الكلام أيضاً فاقد للمعنى الحدثي المصدري،فلابدّ من أن يكون هو أيضاً بمعنى إيجاد الكلام مبدءً. منه مدّ ظلّه.
- (3) راجع ص41 من هذا الجزء.
- (4) في سندها محمّد بن خالد الطيالسي، وهو إماميّ ممدوح، فالرواية حسنة اصطلاحاً. منه مدّ ظلّه.
- (5) السمع والبصر هنا من شؤون العلم، أي العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات. منه مدّ ظلّه.
(صفحه48)
والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء وكانالمعلوم(1) وقع العلم منه على المعلوم(2)، والسمع على المسموع، والبصر علىالمبصر، والقدرة على المقدور» قال: قلت: فلم يزل اللّه متحرّكاً؟ قال: فقال:«تعالى اللّه [عن ذلك] إنّ الحركة صفة محدثة بالفعل» قال: قلت: فلم يزل اللّهمتكلّماً؟ قال: فقال: «إنّ الكلام صفة محدثة، ليست بأزليّة، كان اللّه عزّوجلّولا(3) متكلّم»(4).
والحاصل: أنّه يستفاد من الآيات والروايات أنّ كلامه تعالى حادثة ومنصفات الفعل.
وأمّا ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله من أنّ كلامه تعالى هوالوحي(5) فلا يصل إليه أفهامنا القاصرة، فإنّ الوصول إليه ـ كما قال هو قدسسره مضافاً إلى توقّفه على كون الإنسان في مرتبة عالية من العلوم، يتوقّف علىالأعمال الجوارحيّة الدقيقة، والرياضات النفسانيّة، ونحن لم نصل إلى هذهالمرتبة الشامخة حتّى نتمكّن من إدراك حقيقة الوحي.
والذي يسعه أفهامنا أنّه تعالى متكلّم، بمعنى أنّه موجد للكلام، إمّا بواسطةمثل الشجرة والحصاة كما ذهب إليه المعتزلة، أو بلا وساطة أيّ شيء وآلة علىما حكاه سيّدنا الاُستاذ الإمام قدسسره عن بعض أهل التحقيق.
رجوع إلى مبحث اتّحاد الطلب والإرادة
- (1) «كان المعلوم» أي وجد. م ح ـ ى.
- (2) «وقع العلم على المعلوم» أي وقع على ما كان معلوماً في الأزل وانطبق عليه وتحقّق مصداقه، وليسالمقصود تعلّقه به تعلّقاً لم يكن قبل الإيجاد، والمراد بوقوع العلم على المعلوم العلم به على أنّه حاضرموجود وكان قد تعلّق العلم به قبل ذلك على وجه الغيبة وأنّه سيوجد، والتغيّر يرجع إلى المعلوم لا إلىالعلم. الكافي 1:107، التعليقة 1، نقلاً عن مرآة العقول.
- (3) أي ولم يكن متكلّماً. منه مدّ ظلّه.
- (4) الكافي 1: 107، باب صفات الذات، الحديث 1.
- (5) والوحي أيضاً كلام نفسي، لكن بمعنى خاصّ غير ما ذهب إليه الأشاعرة. منه مدّ ظلّه.
ج2
ولنرجع إلى ما كنّا بصدده، وهو البحث عن اتّحاد الطلب والإرادةوتغايرهما.
وظاهر كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية أنّ مسألة الكلام النفسي ترتبطبمسألة اتّحاد الطلب والإرادة، فكلّ من قال بتغاير الطلب والإرادة لابدّ من أنيلتزم بثبوت الكلام النفسي، وكلّ من قال باتّحادهما لابدّ من أن ينكر الكلامالنفسي، ولا يجتمع إنكاره مع القول بتغايرهما(1).
ولعلّه استنتج هذا ممّا ذهب إليه الأشاعرة في الجمل الإنشائيّة الطلبيّة منتحقّق صفة في النفس غير الإرادة، وهي تسمّى باسمها العامّ كلاماً نفسيّوباسمها الخاصّ طلباً.
والحقّ أنّ كلاًّ من المسألتين مستقلّة غير مربوطة بالاُخرى، فإنّ مسألةالكلام النفسي مسألة فلسفيّة يبحث فيها عن وجود أمر واقعي قائم بالنفسصالح لأن يسمّى كلاماً نفسيّاً وعدمه، مع قطع النظر عن الألفاظ، وأمّا مسألةاتّحاد الطلب والإرادة مسألة لغويّة يبحث فيها عن أنّهما هل وضعا لمعنى واحدأو لمعنيين(2)، فالجهة المبحوث عنها في كلّ منهما غير الجهة المبحوث عنها فيالاُخرى، ولذاذهب بعضهم إلىتغايرالطلب والإرادة مع إنكاره للكلام النفسي.
كلام الاُستاذ البروجردي رحمهالله في المقام
منهم: سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله ، فإنّه قال:
إنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من «اتّحاد الطلب والإرادة مفهوماً وخارج
- (2) وبناءً على وضع الطلب لغير ما وضعت له الإرادة يمكن أن يكون معنى الطلب غير ما سمّاه الأشاعرةكلاماً نفسيّاً، كما سيأتي عند نقل كلام آية اللّه البروجردي وبعض الأعلام. منه مدّ ظلّه.