فإذا أراد الإنسان شرب الماء مثلاً ينقدح لا محالة في نفسه إرادة اُخرىمتعلّقة بأخذ الكأس وتقريبه إلى الفم، ثمّ يحصل أخذه وتقريبه إليه، ثمّ يتحقّقشرب الماء.
فلو كانت الإرادة هو الجزء الأخير من العلّة التامّة لحركة العضلات نحوالمراد فكيف تحقّق الفصل الزماني بينهما؟ هل يمكن أن يتوقّف المعلول علىشيء آخر بعد تماميّة علّته بحصول جزئها الأخير، وقد عرفت أنّهما يتقارنانبحسب الزمان؟!
قد عرفت أنّ المحقّق الاصفهاني رحمهالله ذهب في هذه الموارد إلى أنّ هذا الإنسانالعطشان لا يريد في بداية الأمر شرب الماء، بل ينقدح في نفسه شوق إليه، ثمّينقدح بتبعه شوق آخر في نفسه متعلّق بمقدّمته ـ أعني أخذ الكأس وتقريبهإلى الفم ـ والشوق المتبوع المتعلّق بذي المقدّمة لأجل تعلّقه بأمر استقبالي يبقىراكداً فعلاً ولا يكمل لكي يصدق عليه الشوق المؤكّد الذي هو الإرادة، بخلافالشوق التابع المتعلّق بالمقدّمة، فإنّه حيث تعلّق بأمر حالي يرتقي إلى حدّالنصاب الذي يعبّر عنه بالشوق المؤكّد، فيريد المقدّمة، فيوجدها في الخارج،وبعد ذلك كلّه يرتقي الشوق المتبوع المتعلّق بذي المقدّمة إلى حدّ الكمال الذينسمّيه الإرادة. فراجع إلى وجدانك، هل هذا جواب صحيح؟! هل الإنسان
العطشان المشرف على الهلكة لا ينقدح في نفسه شوق مؤكّد شديد إلى شربالماء حينما يمدّ يده إلى الكأس لأخذه وتقريبه إلى فمه، بل في نفسه مرحلة منالشوق لا ترتقي إلى حدّ النصاب والكمال إلاّ بعد تحقّق مقدّماته؟!
ولو قلنا لمن يتوضّأ: «هل تريد الصلاة؟» بماذا يجيب؟ هل يجيب بأنّي لاُريدها فعلاً بل في نفسي مرحلة من الشوق إليها؟!
فالقول بعدم تعلّق الإرادة بذي المقدّمة قبل تحقّق ما يتوقّف عليه معاندةللوجدان، فالعطشان يريد شرب الماء أوّلاً ثمّ يحصّل مقدّماته ثمّ يتحقّقالشرب، فلو كانت الإرادة مكمّلة للعلّة التامّة فكيف تحقّق الفصل بين العلّةوالمعلول زماناً؟!
والحاصل: أنّ ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله لإثبات امتناع تعلّق الإرادةالتكوينيّة بأمر استقبالي يبتني على أمرين: أحدهما: تفسير الإرادة بالشوقالمؤكّد، الثاني: كونها الجزء الأخير من العلّة التامّة لحركة العضلات نحو المراد،وقد عرفت فساد كلا الأمرين. فكما يمكن تعلّق الإرادة بأمر حالي كذلكيمكن تعلّقها بمراد استقبالي، ويؤيّده الوجدان أيضاً كما عرفت.
نقد كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله حول الإرادة التشريعيّة
ويرد على ما أفاده في مسألة البعث أنّه خلط بين البعث الحقيقيوالاعتباري، فإنّ القول بعدم انفكاك البعث عن الانبعاث وقياسهما بالكسروالانكسار إنّما يصحّ في الحقيقيّين منهما، فإنّه كما لا يمكن أن يتحقّق الكسرالآن والانكسار غداً، لا يمكن أيضاً أن يتحقّق البعث التكويني من قبل المولىالآن وانبعاث العبد في المستقبل.
بخلاف البعث الاعتباري الذي هو مفاد «هيئة افعل»، فإنّه مع كونه فعليّ
ج2
يمكن أن يتعلّق بأمر استقبالي، ولا يصحّ قياسه بالبعث الحقيقي ولا بمسألةالكسر والانكسار.
ويشهد عليه أنّ كثيراً ما لا يتحقّق الانبعاث عقيب البعث الاعتباريالمنجّز، كما في العُصاة والكفّار(1)، فكيف تحقّق الانفكاك بينهما لو كانا نظيرالكسر والانكسار؟!
بل الحقّ ـ كما قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره مراراً ـ أنّ الانبعاث فيموارد الطاعة ليس مسبّباً عن البعث، بل عن ملاحظة استحقاق المثوبة علىالموافقة والعقوبة على المخالفة، سواء صدر الأمر من الشارع أو من المواليالعرفيّة.
نعم، بعض العباد مثل أمير المؤمنين عليهالسلام لا يعبدون اللّه خوفاً من ناره ولطمعاً في جنّته، بل وجدوه أهلاً للعبادة فعبدوه، لكنّهم قليلون غاية القلّة.
وبالجملة: البعث ليس علّة للانبعاث، بل هو محقّق لموضوع الإطاعةوالعصيان فقط.
ويؤيّده ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلاّ بأمرمتأخّر عن زمان البعث، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعيللمكلّف إلى المكلّف به، بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة وعلى تركهمن العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعثنحو أمر متأخّر عنه بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاكالاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب(2).
ثمّ الحقّ أنّ عدم انفكاك الانبعاث عن البعث في كلامهم ليس بمعنى تقارنهم
- (1) فإنّهم على المشهور مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاُصول. منه مدّ ظلّه.
(صفحه300)
زماناً، بل بمعنى كون الانبعاث نحو المبعوث إليه بجميع قيوده، فإذا كان البعثمتعلّقاً بأمر استقبالي كما إذا قال يوم الخميس: «أكرم زيداً يوم الجمعة» فعدمالانفكاك يقتضي الانبعاث نحو الإكرام يوم الجمعة، ضرورة أنّ الانبعاث إليهفي زمن البعث ـ وهو يوم الخميس ـ يستلزم الانفكاك بينهما، لا الانبعاث إليهفي يوم الجمعة.
والحاصل: أنّ تصوير الواجب المعلّق لا يستحيل عقلاً بعدما عرفت منبطلان ما استدلّ به المحقّق الاصفهاني رحمهالله لإثبات الاستحالة، وهو أهمّ ماستدلّ به في المقام.
المقام الثاني: في وجود الواجب المعلّق وعدمه
نعم، نحن لا نلتزم بوجود الواجب المعلّق في الشرع، ضرورة أنّ طريقالتخلّص عن الإشكال الذي كان في ذهن صاحب الفصول لا ينحصربالالتزام به كما هو رحمهالله توهّم.
توضيح ذلك: أنّه رحمهالله رأى أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها، فلابدّ منأن يكون وجوبها بعد وجوبه، مع أنّا نجد في الشريعة موارد يظهر منها خلافذلك، كوجوب تحصيل جواز السفر للحجّ بعد الاستطاعة وقبل الموسم،ووجوب غسل الجنابة والحيض والنفاس للصوم قبل طلوع الفجر، فلأجلهذه العويصة التزم بكون الواجب في أمثال هذه الموارد معلّقاً، فيكون وجوبالحجّ والصوم متحقّقاً في زمن لزوم تحصيل جواز السفر والغسل، وإن كانزمن وقوعهما بعد ذلك.
وبعبارة اُخرى: إنّ الذي حمله على الالتزام بهذا التقسيم أنّه رأى أنّ بعضالقيود الخارجة عن تحت قدرة المكلّف لو كانت من قيود الوجوب لاستلزم
ج2
تعطيل الواجب رأساً، فلابدّ من القول بوجوب الحجّ مثلاً على المكلّف منأوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة لكي يجب عليه تحصيل المقدّمات التيلا يمكن بعد حلول الموسم تحصيلها بحيث يدرك الحجّ في وقته، ولو قلنبتوقّف وجوب الحجّ على حلول الموسم لجاز ترك مقدّماته حتّى المفوّتة منهقبل حلوله، لعدم وجوب مقدّمات الشيء ما لم يصر واجباً، ونعلم أنّ تركهكذلك ينجرّ إلى ترك أصل الحجّ رأساً.
فلابدّ من القول بوجوب الحجّ على المكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أوخروج الرفقة، لكنّ الإتيان به متوقّف على حلول الموسم.
وهذا بخلاف الوقت في باب الصلاة، فإنّه دخيل في وجوبها، لأنّ دخله فيهلا يستلزم تركها.
والحاصل: أنّ الوقت في بعض الواجبات ـ كالحجّ ـ من قيود الواجب، وفيبعضها الآخر ـ كالصلاة ـ من قيود الوجوب.
هذا توضيح ما ألجأ صاحب الفصول رحمهالله على تقسيم الواجب إلى المنجّزوالمعلّق.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى بعد كون الوقت قيداً للواجب في بعض الواجباتوللوجوب في بعضها الآخر ـ أنّ طريق التخلّص عن هذا الإشكال لا ينحصربالالتزام بالواجب المعلّق، لإمكان التخلّص منها بأربعة طرق اُخرى مبنيّةعلى مبانٍ خاصّة:
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقدّمات المفوّتة
أحدها: مبنيّ على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمهالله من رجوع القيود فيالواجبات المشروطة إلى المادّة لا إلى الهيئة، فإنّ هذا المبنى على فرض صحّته