(صفحه52)
البعث والتحريك العملي من الواقعيّات، ولا يتعلّق الإنشاء بها كما قال رحمهالله فيمقدّمة كلامه، وإن أراد تعلّقه بالبعث والتحريك القولي، فمضافاً إلى أنّه أيضأمر واقعي خارجي، يتوجّه إليه إشكال آخر، وهو أنّه هو البعث والتحريكالمنشأ بالقول، فلا يمكن أن يتعلّق به الإنشاء ثانياً، لاستلزامه تأخّر المنشأ عنالإنشاء مع أنّه متقدّم عليه رتبةً، وإن أراد تعلّقه بمفهوم الطلب وماهيّته، فلفرق بينه وبين الإرادة في المقام، لعدم كون ماهيّة الإرادة أيضاً أمراً واقعيّاً، فإنكان ماهيّة الطلب قابلة للإنشاء كان ماهيّة الإرادة أيضاً كذلك.
كلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام، وهو أحسن الأقوال
ومنهم: بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات، وإليك بيانه مع توضيحمنّا:
إنّ الطلب مغاير للإرادة، إذ الإرادة صفة قائمة بالنفس، والطلب فعلاختياريّ من الأفعال الجوارحيّة لغةً وعرفاً:
فإنّ اللغويّين فسّروه بـ «محاولة وجدان الشيء وأخذه».
وأهل العرف يقولون: «طالب العلم» ولم يريدوا به مجرّد من له شوق مؤكّدإلى تحصيل العلم، بل يريدون به من يسعى ويجهد في تحصيله بالفعل، وفيالحديث: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(1)، ولا ريب في أنّ المراد به إنّمهو الاشتغال بتحصيله، لا مجرّد الشوق المؤكّد إليه، وقال الفقهاء أيضاً فيمنيكون فاقداً للماء في البرّ: لا يجوز له التيمّم إلاّ بعد الفحص عن الماء إلىاليأس، ويكفي الطلب غلوة(2) سهم في الحزنة(3)، وغلوة سهمين في السهلة في
- (1) الكافي 1: 30، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، الحديث 1.
- (2) الغَلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه. م ح ـ ى.
ج2
الجوانب الأربعة، ولا إشكال في أنّ مرادهم بالطلب في هذه العبارة هو الفعلالخارجي، أعني المشي لوجدان الماء.
وبالجملة: الطلب هو فعل اختياري، إلاّ أنّه على قسمين: 1ـ ما تعلّق بفعلنفس الإنسان، كطالب الضالّة، وطالب العلم، وما شاكلهما، 2ـ ما تعلّق بفعلغيره، كأمر المولى عبده، وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الإرادة.
والطلب كالإرادة في عدم قابليّته للإنشاء، لكونه أيضاً أمراً واقعيّاً خارجيّاً،أمّا القسم الأوّل منه فظاهر، وأمّا القسم الثاني فلأنّ الأمر ـ أعني قول المولىلعبده مثلاً: «اضرب زيداً» ـ نفسه هو الطلب، لا أنّه إنشاء الطلب، فالقسمالثاني من الطلب أيضاً أمر واقعي غير قابل للإنشاء(1).
هذا حاصل كلام بعض الأعلام«مدّ ظلّه» مع توضيح منّا، وهو أحسن الأقوالفي المقام، لخلوّه عن الإشكال.
والحاصل: أنّ بين الطلب والإرادة مغايرة معنويّة، خلافاً للمحقّقالخراساني رحمهالله ، ولكنّهما يشتركان في عدم تعلّق الإنشاء بهما.
هذا تمام الكلام في مادّة الأمر.
ونحن وإن تعرّضنا لمسألة الجبر والتفويض عند تدريس الكفاية، إلاّ أنّا لنتعرّض لها هنا، خوفاً من طول الكلام.
- (1) الحَزْنة: ما غلظ من الأرض، وقلّما يكون إلاّ مرتفعاً. م ح ـ ى.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 14.
(صفحه54)
في معنى صيغة الأمر
الفصل الثاني
فيما يتعلّق بصيغة الأمر
وفيه مباحث:
المبحث الأوّل: في المعانى الّتي تستعمل فيها صيغة الأمر
ربما يذكر للصيغة معانٍ قد استعملت فيها، وقد عدّ منها الترجّي والتمنّيوالتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير إلى غير ذلك.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
وناقش فيه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
وهذا كما ترى، ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لمتستعمل إلاّ في إنشاء الطلب، إلاّ أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعثوالتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون اُخرى أحد هذه الاُمور كما لا يخفى،وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذكان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثحقيقة، وإنشائه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستعملة في التهديدوغيره(1)، إنتهى.
ج2
أقول: قوله: «لم تستعمل إلاّ في إنشاء الطلب» ظاهر في كون المستعمل فيههو الإنشاء، ولا يخفى أنّ الإنشاء عنده من مقوّمات الاستعمال كما نفى البُعدعنه في أواخر الأمر الثاني من المقدّمة(1)، فالظاهر أنّ في عبارته هنا مسامحةً،ومراده كون المستعمل فيه هو الطلب الإنشائي، ومنه تظهر المسامحة في قوله:«موضوعة لإنشاء الطلب» أيضاً.
وكيف كان، فكلامه هذا مبنيّ على ما اختاره من قابليّة الطلب للإنشاء.
الحقّ في المسألة
وأمّا على ما اخترناه من عدم تعلّق الإنشاء بالطلب فالمنشأ بهيئة «افعل»إنّما هو البعث والتحريك، سواء استعملت الصيغة وكان غرض المستعمل تحقّقالمأمور به في الخارج، كما إذا قال المولى العطشان لعبده: «جئني بالماء» أواستعملت وكان غرضه أمراً آخر، كالتهديد والتسخير والتعجيز ونحوها.
فلابدّ من توضيح المطلب بالنسبة إلى كلا القسمين:
أمّا القسم الأوّل ـ أعني ما إذا استعمل الأمر بقصد وقوع المأمور به فتوضيحه يتوقّف إلى بيان اُمور ثلاثة:
1ـ أنّ الآمر في هذا القسم يرغب إلى التوصّل إلى المأمور به بلا إشكال،وليس بين الأمر والرغبة ملازمة بحيث لو لم يأمر لم تتحقّق الرغبة، بل قديكون الإنسان يحبّ شيئاً من دون أن يأمر بإتيانه، إمّا لعدم كونه ذا عبد،أو لغير ذلك. نعم، الأمر أمارة تحقّق الرغبة في نفس المولى، من دون أن يكونبينهما ارتباط وملازمة.
(صفحه56)
2ـ أنّ الأمر ليس علّة لتحقّق المأمور به، بل يوجب تحقّق الإطاعةوالعصيان، بمعنى أنّ العبد إذا وافقه عدّ مطيعاً، وإذا خالفه عدّ عاصياً، ولو لالأمر لم يصدق عليه المطيع ولا العاصي كما هو واضح.
3ـ أنّ البعث والتحريك تارةً يكون تكوينيّاً واقعيّاً، كما إذا أخذ المولى بيدالعبد وجرّه إلى تحقّق مطلوبه، واُخرى اعتباريّاً يتحقّق بواسطة صدور الأمر،والمطلوب لا يتخلّف عن البعث والتحريك في الأوّل، لعدم إمكان العصيانفيه، بخلاف الثاني كما لا يخفى.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المنشأ بهيئة «افعل» إنّما هو القسم الثاني من البعثوالتحريك، وهو أمر اعتباري يعتبره العقلاء والشارع عقيب التلفّظ بهيئة«افعل»، ويترتّب عليه استحقاق المثوبة على الموافقة، والعقوبة على المخالفة، كميترتّب على سائر الاُمور الاعتباريّة آثارها.
لا يقال: لا فرق بين البعث والطلب، فلا يتمّ ما ذهبتم إليه من أنّ المنشأ هوالبعث ولا يمكن تعلّق الإنشاء بالطلب، فالنزاع بينكم وبين المحقّقالخراساني رحمهالله إنّما هو في التسمية، حيث إنّ الإنشاء تعلّق بأمر يسمّيه الطلبوتسمّونه البعث.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ الطلب إنّما هو نفس الأمر، أعني قول المولى: «جئنيبالماء» وهو أمر واقعي لا يمكن تعلّق الإنشاء به كما تقدّم، فإنّه نفس الإنشاءلا ما تعلّق به الإنشاء، وأمّا البعث الذي تعلّق به الإنشاء فهو أمر اعتبارييوجد بذلك القول في عالم الاعتبار، فبينهما بون بعيد.
وبعبارة اُخرى: الطلب إنّما هو إنشاء البعث والتحريك الاعتباري، وأمّنفس البعث والتحريك الذي تعلّق به الإنشاء فهو مغاير للطلب.
ويشهد له أنّ البعث دائماً يتقوّم بشخصين: أحدهما الباعث والآخر