(صفحه188)
الظاهرة في الجعل مستقلاًّ، إذ يكون هنا أمر واحد متعلّق بالطبيعة، وقد أمرالشارع بإتيانها بكيفيّة في حال الاختيار، وبكيفيّة اُخرى في حال الاضطرار،والاختلاف في الأفراد والمصاديق، ولعمري أنّ هذا هو الحقّ، حفظاً لظواهرالأدلّة مع ما سيأتي في مبحث الاستصحاب من إمكان تعلّق الجعل مستقلبالشرطيّة والجزئيّة والمانعيّة(1).
هذا حاصل كلامه قدسسره ، وهو كلام متين، والتحقيق موكول إلى مبحثالاستصحاب.
الإتيان بالمأمور به بكلّ أمر يجزي عن التعبّد به ثانياً
إذا عرفت هذه الاُمور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعينكما مرّ:
الموضع الأوّل: أنّ الإتيان بالمأمور به بكلّ أمر(2) يجزي عن التعبّد به ثانياً،لاستقلال العقل بأنّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتيان المأمور به على وجههلاقتضاء التعبّد به ثانياً، بل هذا أمر ضروري لا ينبغي الشكّ فيه؛ لحصولالغرض بعد تحقّق المأمور به وسقوط الأمر بعد حصول الغرض، فلا مجالللامتثال بعد الامتثال، ولا لتبديله بامتثال ثانٍ.
كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام
خلافاً لصاحب الكفاية، فإنّه قال:
لا يبعد أن يُقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانياً بدلاً عن
- (1) تهذيب الاُصول 1: 254.
- (2) عبّرنا بهذا التعبير وفاقاً للمحقّق الخراساني رحمهالله ، وإلاّ فقد عرفت أنّه ليس لنا إلاّ أمر واحد. منه مدّ ظلّه.
ج2
التعبّد به أوّلاً، لا منضمّاً إليه كما أشرنا إليه في المسألة السابقة(1)،وذلك فيما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض وإن كانوافياً به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماءٍ أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد، فإنّالأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو اُهرق الماء واطّلع عليه العبد وجبعليه إتيانه ثانياً، كما إذا لم يأت به أوّلاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضهالداعي إليه، وإلاّ لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ يكون له الإتيان بماء آخر موافقللأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه. نعم، فيما كان الإتيان علّة تامّةلحصول الغرض فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفععطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل فله التبديل باحتمال أن ليكون علّة، فله إليه سبيل، ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من الروايات فيباب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ اللّه تعالى يختار أحبّهما إليه(2)،إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد كلام صاحب الكفاية في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ ما استدلّ به لإمكان تبديل الامتثال من أنّ الأمربحقيقته وملاكه لم يسقط بعد لو تمّ لدلّ على إمكان الانضمام أيضاً، فلا وجهللقول بصحّة التبديل وبطلان الانضمام.
وثانياً: عدم سقوط الأمر بعد تحقّق الامتثال ممنوع كما عرفت في آخرمسألة المرّة والتكرار(3).
وأمّا وجوب الإتيان بالماء ثانياً فيما إذا اُهرق الماء الأوّل فإنّما هو للعلم
- (1) راجع آخر مبحث المرّة والتكرار. م ح ـ ى.
(صفحه190)
بغرض المولى، فإنّ العبد إذا علم بأنّ غرض المولى من الأمر بإتيان الماء هوالتمكّن من الماء لرفع عطشه به، وعلم أيضاً بأنّ الماء المأتيّ به قد اُهرق فارتفعتمكّنه منه يجب عليه الإتيان بماء آخر، لا لعدم سقوط الأمر، فإنّه سقط بمجرّدالإتيان الأوّل، بل لأنّ قضيّة العبوديّة والمولويّة تقتضي لزوم تحصيل غرضالمولى فيما إذا كان لازم الاستيفاء وكان العبد عالماً به، ولو لم يصدر منه أمرأصلاً، ألاترى أنّ العبد لو رأى ابن المولى مشرفاً على الغرق يجب عليه إنقاذهوإن لم يكن المولى عالماً بحال ابنه حتّى يأمر بإنقاذه، ولا يجوز للعبد تركالإنقاذ معتذراً عند مولاه بأنّك لم تأمرني بإنقاذه.
وبالجملة: يجب على العبد تحصيل غرض المولى إذا علم به، سواء صدر منقبله أمر أم لا. نعم، صدور الأمر يكون طريقاً لعلم العبد بالغرض غالباً.
ففي المقام سقط الأمر، ولزوم الإتيان بالماء ثانياً إنّما هو لأجل تحصيلغرض المولى وإن لم يكن أمر في البين، فلا يصدق عليه عنوان امتثال الأمر،فحينئذٍ لا يكون وجوب الإتيان بالماء ثانياً فيما إذا اُهرق الماء الأوّل شاهدعلى جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر كما زعم المحقّق الخراساني رحمهالله .
وأمّا مسألة استحباب إعادة الصلاة جماعة لمن أدّاها فرادى، ونحوها،كاستحباب تكرار صلاة الآيات ما دام سببها باقياً في مثل الكسوفوالخسوف الذي لا يرتفع فوراً فلو لم يوجد لها محمل فلابدّ من القول بكونهمن المتشابهات التي علمها عند اللّه والرسول والأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، لأنّظاهر القرآن والروايات ليس بحجّة إذا كان مخالفاً لحكم عقلي قطعي، وقدعرفت أنّ عدم إمكان الامتثال عقيب الامتثال وكذا تبديله بامتثال آخر منالأحكام العقليّة البديهيّة، فلا يمكن القول بأنّ إعادة الصلاة في المسألتين منقبيل أحدهما.
ج2
مضافاً إلى أنّه يمكن الجواب عن روايات الباب بوجه آخر:
أمّا روايات صلاة الجماعة فاختلفوا في موردها، فذهب المحقّق الخراساني رحمهالله تبعاً للمشهور إلى أنّ موردها ما إذا انعقدت الجماعة بعد إتمام صلاته منفرداً،أو حين الاشتغال بها لكنّه يتمّها فريضةً، ثمّ يعيدها جماعةً، وذهب الشيخ رحمهالله فيالتهذيب إلى أنّ موردها إنّما هو ما إذا انعقدت الجماعة حين الاشتغالبالصلاة، ومعناها أنّه يستحبّ عليه أن يصرف نيّته من الفريضة إلى النافلة،فيقطعها أو يتمّها سريعاً ثمّ يصلّي الفريضة جماعة(1).
وعلى هذا فلا ترتبط الروايات بالمقام أصلاً.
وأمّا على قول المشهور فيمكن أن يترائى في بادئ النظر أنّها تدلّ علىتبديل الامتثال كما زعمه المحقّق الخراساني رحمهالله ، ولكنّ الواقع خلافه، لأنّالإعادة مستحبّة لا واجبة، فلنا حكمان: أحدهما الوجوب، والآخرالاستحباب، والأوّل تعلّق بطبيعة الصلاة، والثاني بإعادتها جماعة، فالإتيانبها فرادى امتثال للحكم الوجوبي، وإعادتها جماعةً امتثال للحكمالاستحبابي، فأين تبديل الامتثال؟!
لا يقال: كيف يمكن القول بكون الصلاة المعادة مستحبّة مع أنّه ورد فيبعض الروايات: «ويجعلها الفريضة»(2) أو «ويجعلها الفريضة إن شاء»(3)؟
فإنّه يقال: ليس المراد بجعلها الفريضة نيّة الوجوب، بل المراد أن يجعلهبعنوان الصلاة التي أدّاها فرادى كالظهر والعصر وغيرهما، فإنّ الصلاة منالعناوين القصديّة التي لا تتعيّن إلاّ بالتعيين والقصد.
نعم، لا يلائمه كلمة «إن شاء» في الرواية الثانية، لأنّ الصلاة مع الجماعة إن
- (1) تهذيب الأحكام 3: 50، باب أحكام الجماعة، الحديث 88 .
- (2) وسائل الشيعة 8 : 403، كتاب الصلاة، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 11.
- (3) وسائل الشيعة 8 : 401، كتاب الصلاة، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
(صفحه192)
كانت إعادة لما أدّاها فرادى فلا يصحّ تعليقه بمشيئة المصلّي الظاهر في أنّهيتمكّن من أن يجعلها غيرها.
فلعلّ الأوجه أن يُقال: اُريد أنّه يقصد بها صلاة القضاء إن شاء، ويؤيّدهخبر إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : تقام الصلاة وقد صلّيت؟فقال: «صلِّ واجعلها لما فات»(1).
فحاصل معنى الروايات أنّه يجعلها قضاءً لما فات إن شاء، وإن لم يشأ ينويبها إعادة لما أدّاها فرادى.
إن قلت: ورد في رواية: «يختار اللّه أحبّهما إليه»(2) كما أشار إليه المحقّقالخراساني رحمهالله فما المراد به؟
قلت: مضافاً إلى ضعفها سنداً يمكن أن يكون معناها أنّه تعالى يختار الصلاةالتي هي أحبّ إليه، وهي ما أتى بها جماعةً، فيعطيه ثواب الجماعة، وإن تحقّقالامتثال وسقط الأمر الوجوبي بالصلاة التي أتى بها فرادى.
وأمّا ما دلّ على إعادة صلاة الآيات فهو ما روي عن معاوية بن عمّار قال:قال أبو عبداللّه عليهالسلام : «صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد»(3).
وظاهره وجوب الإعادة، ولكن لم يقل به أحد إلاّ من شذّ وندر.
أمّا المشهور فذهبوا إلى كفاية صلاة واحدة مطلقاً، واستحباب الإعادة فيمثل الكسوف والخسوف الذي لا يرتفع فوراً.
فلنا حكمان، ولكلّ منهما متعلّق، أحدهما الوجوب، وهو تعلّق بطبيعةصلاة الآيات، والثاني الاستحباب، وهو تعلّق بإعادتها، فالصلاة الاُولىامتثال للحكم الأوّل، والثانية للحكم الثاني، فأين تبديل الامتثال بامتثال
- (1) وسائل الشيعة 8 : 404، كتاب الصلاة، الباب 55 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
- (2) وسائل الشيعة 8 : 403، كتاب الصلاة، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10.
- (3) وسائل الشيعة 7: 498، كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف والآيات، الحديث 1.