(صفحه442)
علمه بعصيان الكلّ أو الجلّ، فلو علم بإطاعة طائفة منهم وعصيان طائفةاُخرى فلا ضير في توجيه الخطاب إلى الكلّ، لعدم استلزامه اللغويّة.
والحاصل: أنّ كلّ واحد من الخطابات الشرعيّة خطاب واحد متوجّه إلىالعموم، من دون أن ينحلّ إلى خطابات شخصيّة متعدّدة، بدليل شمولهللعاصين، مع أنّه لا يمكن تكليفهم بخطابات شخصيّة.
بل هي شاملة للكفّار أيضاً، بدليل ما ورد من أنّهم مكلّفون بالفروع، كمأنّهم مكلّفون بالاُصول، مع أنّ الإشكال المتقدّم بالنسبة إلى العصاة جارٍ هنأيضاً على تقدير انحلال الخطابات إلى خطابات شخصيّة.
لا يقال: بعض الخطابات وإن كانت عامّة لجميع الناس كآية الحجّ(1)، إلأنّ بعضها الآخر مختصّة بالمؤمنين كآيتي الصوم(2) والوضوء(3).
فإنّه يقال: إنّ الأخبار تدلّ على كون الكفّار مكلّفين بجميع الفروع، فلابدّحينئذٍ من أن يكون تخصيص المؤمنين بالخطاب في بعض الآيات إمّا للتجليل،أو لعلمه تعالى بأنّ هذا التكليف الشامل للكلّ لا يؤثّر إلاّ في خصوصهم، أولجهة اُخرى.
وبالجملة: كلّ واحد من الخطابات الشرعيّة خطاب واحد كلّي لا ينحلّإلى خطابات متعدّدة شخصيّة، بدليل شمولها للكفّار والعصاة.
حكم العلم الإجمالي الخارج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء
وبهذا يظهر أنّ حكمهم بعدم منجّزيّة العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه
- (1) وهي قوله تعالى: « وَللّهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً». آل عمران: 97.
- (2) وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ». البقرة: 183.
- (3) وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىالْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ». المائدة: 6.
ج2
خارجاً عن محلّ الابتلاء ـ لاستهجان الخطاب بالنسبة إليه ـ صحيح لو كانالخطاب شخصيّاً قائماً بمخاطب واحد، فيستهجن خطابه بزجره مثلاً عنارتكاب ما في الإناء الموجود في بلدة قاصية، وأما إذا كان بطريق العموم ـ كماخترناه ـ فيصحّ الخطاب لعامّة المكلّفين إن وجد ملاكه، أعني الابتلاء، في عدّةمنهم كما في المقام، ولذا نحن نلتزم بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة حتّىفيما إذا كان بعض أطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء.
البحث حول توقّف الأحكام على العلم والقدرة
الثالث: أنّ شرائط التكليف العقليّة كشرائطه الشرعيّة في توقّفه عليها، إلأنّ الحاكم في الاُولى هو العقل وفي الثانية هو الشرع، فمعنى كون العلم والقدرةشرطين لعامّة التكاليف حكم العقل بعدم ثبوتها إلاّ بعد تحقّقهما، مع أنّهلا ملاك لهذا الحكم العقلي، ضرورة أنّه لا يحكم إلاّ بقبح عقاب الجاهلعلى مخالفته التكليف المجهول كما تقدّمت الإشارة إليه، فالعقل لا يحكمبقبح(1) كون الجاهل مكلّفاً بتكليف عامّ يشمله، بل بكونه معذوراً في مخالفةالتكليف.
ويؤيّده قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»(2)، حيث إنّه نفىالتعذيب عند عدم بعث الرسول لا التكليف.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى القدرة، فإنّ العقل لا يحكم بقبح تكليف العاجزبنحو الخطاب العامّ، بل يحكم بقبح عقوبته على ترك امتثاله.
بل لنا على نفي شرطيّة كلّ من العلم والقدرة برهانان:
- (1) هذا توضيح ما ذكروه في البراءة العقليّة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. م ح ـ ى.
(صفحه444)
أمّا العلم فلأنّه لو كان شرطاً للتكاليف يلزم أوّلاً: تعطيل كتاب البراءة منالمباحث الاُصوليّة، حيث إنّ مجراها هو الشكّ في التكليف، وهو بناءً على كونالتكليف مشروطاً بالعلم مستلزم للقطع بعدمه، لأجل القطع بانتفاء شرطه،فلانحتاج إلى التمسّك بأصالة البراءة لنفي التكليف في مورد من موارد الشكّفيه، وثانياً: يلزم الدور بناءً على ما تقدّم من عدم ثبوت مراتب للتكليف(1)،ضرورة أنّ التكليف متوقّف على العلم به، والعلم به متوقّف على ثبوته فيالواقع، إذ المراد كون التكليف مشروطاً بالعلم بالواقع، لا بالجهل المركّب كما ليخفى، فلايمكن تقييد الحكم بالعلم به(2).
وأمّا القدرة فلأنّها لو كانت شرطاً للتكليف لما وجب على العبد تحصيلها،بل له أن يمنع من تحقّقها كسائر مقدّمات التكليف، مع أنّ العبد إن كان متمكِّنمن تحصيلها يجب عليه ذلك.
على أنّهم قالوا بلزوم الاحتياط عند الشكّ في القدرة، مع أنّ الشكّ فيالتكليف مجرى البراءة، فهذا دليل على أنّ الشكّ فيها ليس من قبيل الشكّ فيشرط الحكم الراجع إلى الشكّ في نفس الحكم، بل الشاكّ فيها عالم بتوجّهالتكليف إليه، لكنّه شاكّ في كونه مأموناً على مخالفته، فيجب عليه الاحتياط.
والحاصل: أنّ ما هو المعروف من كون العلم والقدرة شرطين عقليّين لعامّةالتكاليف ليس بصحيح.
إذا عرفت هذه الاُمور الثلاثة نقول:
- (1) وأمّا لو قلنا بأنّ له مرحلتين: الإنشاء والفعليّة، فلا دور، لأنّ ما يتوقّف عليه العلم هو الحكم الإنشائي، وميتوقّف على العلم هو الحكم الفعلي. م ح ـ ى.
- (2) فلابدّ من حمل ما يدلّ على تقييد وجوب الجهر والإخفات والقصر والإتمام بالعلم بوجوبها على عدماستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة الجهل، وبعبارة اُخرى: يحمل على تفضّله تعالى بقبول الصلاةالفاقدة لشرطها مكان الواجدة. م ح ـ ى.
ج2
لو كان مكلّفاً بتكليف واحد معلوم له وكان قادراً على امتثاله كما إذا دخلالمسجد بعد أداء الصلاة والتفت إلى كونه متنجّساً وكان عالماً بوجوب تطهيرالمسجد عن النجاسة وقادراً عليه فلا إشكال في استحقاقه المثوبة على الموافقةوالعقوبة على المخالفة، بخلاف ما إذا لم يلتفت إليه، أو كان جاهلاً بوجوبالتطهير، أو عاجزاً عنه، فإنّه وإن كان مكلّفاً ـ لأجل الخطاب العامّ ـ في هذهالصور أيضاً، إلاّ أنّه معذور في مخالفة التكليف ولا يستحقّ العقوبة عليها.
ولو كان مكلّفاً بحكمين من جهة الخطاب العامّ من دون أن يكون أحدهمأهمّ من الآخر ولم يقدر إلاّ على امتثال أحدهما، كما إذا لم يقدر إلاّ على إنقاذأحد الغريقين المحترمين، فلا إشكال في كونه مخيّراً عقلاً بينهما، فإن صرفقدرته في إنقاذ أحدهما فهو يستحقّ الثواب عليه ولا يستحقّ العقاب علىترك الآخر، وأمّا إذا ترك الجميع فلا إشكال في أصل استحقاقه العقوبة، إنّمالإشكال في كونه مستحقّاً لعقاب واحد أو عقابين:
الظاهر هو الثاني، لأنّه كان قادراً على الامتثال بالنسبة إلى كلّ واحد منالتكليفين، فتركه اختياراً، والجمع بينهما وإن لم يكن مقدوراً له، إلاّ أنّ عنوان«الجمع» ليس متعلّقاً للتكليف، بل المتعلّق إنقاذ زيد من دون ملاحظة إنقاذعمرو، وإنقاذ عمرو من دون ملاحظة إنقاذ زيد، فكلّ من الإنقاذين واجب،لا الجمع بينهما.
كما أنّه لو صرف قدرته في عمل ثالث محرّم يستحقّ ثلاث عقوبات:إحداها على ارتكاب الحرام، والاُخريين على ترك الواجبين.
ولو كان أحد الحكمين أهمّ من الآخر ولم يقدر إلاّ على امتثال أحدهما، كمإذا التفت إلى أنّ رجلاً مؤمناً مشرف على الغرق في حال ضيق وقت الصلاة،فالعقل يحكم بلزوم رعاية الأهمّ وكونه معذوراً في ترك المهمّ، فلو أنقذ الغريق
(صفحه446)
في المثال يستحقّ المثوبة عليه ولا يستحقّ العقوبة على ترك الصلاة.
ولو أتى بالمهمّ وترك الأهمّ ـ كما هو المفروض في المتنازع فيه ـ فصلّى وتركالإنقاذ فصلاته صحيحة حتّى على القول بتوقّف صحّة العبادات على الأمر،من دون أن نضطرّ إلى القول بالترتّب واشتراط الأمر بالمهمّ بعصيان الأمربالأهمّ أو العزم عليه، لأنّ الأمر تعلّق بالصلاة في عرض تعلّق الأمر بالإنقاذمن دون أن يتأخّر رتبةً عنه، لما عرفت من أنّ التكاليف متعلّقة بالطبائع لبالأفراد، ولا تضادّ بين الطبائع، بل بين الأفراد في بعض الحالات، ومن أنّ كلمن الخطابات العامّة خطاب واحد شامل لجميع الناس، سواء كان مؤمناً أمكافراً، مطيعاً أم عاصياً، عالماً أم جاهلاً، قادراً أم عاجزاً، فهو مكلّف فيالمثالالمتقدّم بتكليفين: إنقاذ الغريق وإقامة الصلاة، لكنّه لو اختار الأهمّ لحكم العقلبمعذوريّته في ترك المهمّ، بخلاف العكس الذي هو محلّ النزاع، فإنّه يستحقّالعقوبة على ترك الأهمّ الذي هو الإنقاذ، لكن صلاته صحيحة حتّى على القولبتوقّف صحّتها على الأمر، لكونها مأموراً بها في عرض كون الإنقاذ مأموربه، لا في الرتبة المتأخّرة عنه كما يقول القائل بالترتّب.
إن قلت: كيف يكون الأمران في رتبة واحدة، مع أنّ أحدهما تعلّق بالأهمّوالآخر بالمهمّ؟
قلت: اختلاف المتعلّقين في الأهمّيّة والمهمّيّة لا يوجب تغاير الأمرين فيالرتبة، ولذا أنكر الترتّب بعضهم ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله ـ مع كونه ملتفتإلىأنّ أحد المتعلّقين أهمّ من الآخر، بل القائل بالترتّب أيضاً لا يستندإلىمسألة الأهمّيّة والمهمّيّة، بل إلى أنّ وجوب الأهمّ مطلق ووجوب المهمّمشروط بشرط متأخّر عن الأمر بالأهمّ، وقد عرفت أنّ كليهما واجبانمطلقان وفي عرض واحد.