(صفحه438)
جاهلاً بلزوم الإتمام أو بالعكس، صحّت صلاته، وأمّا في سائر الأحكام فلدليل على اختصاصها بالعالم أو القادر، فما هو المعروف من كون العلم والقدرةمن الشرائط العقليّة لجميع التكاليف ليس بصحيح.
إن قلت: فهل الجاهل والعاجز مكلّفان بالصلاة والصوم وغيرهما منالواجبات كالعالم والقادر؟!
قلت: نعم، غاية الأمر أنّ كلاًّ من الجهل والعجز معذّر للعبد على مخالفةالتكليف، فلا يستحقّ العقوبة عليها، ويؤيّده ما ذكروه في البراءة العقليّة من أنّالعقاب بلا بيان قبيح عقلاً، ولو لم يكن التكليف متوجّهاً إلى الجاهل لكانالمناسب أن يقال: العقاب بلا تكليف قبيح عقلاً.
وإن أرادوا به إرادة اللّه التشريعيّة يلزمهم القول بتغيّر إرادته تعالى بحسبحالات المكلّفين، ولا يمكن الالتزام به حتّى في إرادته التشريعيّة.
وبالجملة: لا مجال للقول بأنّ لكلّ حكم مرحلتين: الإنشاء، والفعليّة.
والذي نسمّيه حكماً إنشائياً أو شأنيّاً، هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل،سواء لم يعلن بين الناس أصلاً حتّى يأخذوه ويتمّ عليهم الحجّة، لمصالح فيإخفائه وتأخير إجرائه، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى وليّ العصر «عجّلاللّه تعالى فرجه»، ويكون وقت إجرائه زمان ظهوره، لمصالح تقتضي العنايةالإلهيّة، كنجاسة بعض الطوائف المنتحلة بالإسلام وكفرهم، فهي أحكامإنشائيّة في زماننا وإذا بلغ وقت إجرائها تصير فعليّة، وهذا توجيه ما ورد منأنّه «عجّل اللّه تعالى فرجه» يأتي بدين جديد، وإلاّ فـ «مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلامِدِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»(1) و«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ اْلإِسْلامُ»(2).
ج2
أو اُعلن بينهم، ولكن بصورة العموم والإطلاق، ليلحقه التقييد والتخصيصبعده بدليل آخر، كالأحكام الكلّيّة التي تنشأ على الموضوعات ولا تبقى علىما هي عليها في مقام الإجراء، فالمطلقات والعمومات قبل ورود المقيّداتوالمخصّصات أحكام إنشائيّة بالنسبة إلى موارد التقييد والتخصيص، وإن كانتفعليّات في غير هذه الموارد.
والذي نسمّيه حكماً فعليّاً هو ما حاز مرتبة الإعلان، وتمّ بيانه من قبلالمولى بإيراد مخصّصاته ومقيّداته، وآن وقت إجرائه وحان موقع عمله،فحينئذٍ فقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) بهذا العموم حكم إنشائي، وما بقيبعد التقييد أو التخصيص حكم فعلي، هذا هو المختار في معنى إنشائيّة الحكموفعليّته.
فتلخّص أنّ الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي، وهو ما لم ير الحاكمصلاحاً في إجرائه وإن كان نفس الحكم ذا صلاح، كالأحكام المودوعة عندصاحب الأمر الواصلة إليه من آبائه عليهمالسلام ، أو يرى صلاحاً في إجرائه ولكناُنشأ بصورة العموم والإطلاق ليلحق به خصوصه وقيده هو نفسه أو وصيّبعده.
وإلى حكم فعلي قد بيّن واُوضح بخصوصه وقيوده وآن وقت إجرائهوإنفاذه، وعليه إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلّف، وإنكان قاصراً عن إزاحة علّته، أو عروض مانع، كالعجز والاضطرار عن القيامبمقتضى التكليف، لا يوجب ذلك سقوط الحكم عن فعليّته ولا يمسّ بكرامتهولا يسترجعه إلى ورائه فيعود إنشائيّاً، لأنّ ذلك أشبه شيء بالقول بانقباضإرادة المولى عند طروّ العذر وانبساطها عند ارتفاعه، والسرّ في ذلك أنّ غاية
(صفحه440)
ما يحكم به العقل هو أنّ المكلّف إذا طرأ عليه العذر أو دام عذره وجهله، أنلا يكون مستحقّاً للعقاب، بل يخرج من زمرة الطاغين وعداد المخالفين، لعدمالمخالفة عن عمد، وأمّا كونه خارجاً من موضوع التكليف بحيث تختصّ فعليّةالحكم بغير الجهّال وذوي الأعذار، فلا وجه له، وسيأتي أنّ الخطاباتالقانونيّة ليست مثل الخطابات الشخصيّة، فإنّ الثانية لا يجوز توجيهها لغيرالقادر، بل يقبح خطاب العاجز بشخصه، دون الاُولى، فحينئذٍ فلا وقعللسؤال عن أنّ إسراء الحكم إلى العاجز والجاهل إسراء بلا ملاك، فارتقب.
وبذلك يتّضح أنّ الفعليّة والشأنيّة بالمعنى المعروف من إنشائيّة الحكمبالنسبة إلى شخص، كالجاهل والغافل والساهي والعاجز، وفعليّته بالنسبة إلىمقابلاتها، ممّا لا أساس له، لأنّ الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول، مععدم الدليل في جميعها، والتصرّف العقلي أيضاً غير معقول، لعدم إمكانتصرّف العقل في إرادة الشارع ولا في حكمه، وسيأتي توضيحه.
وبالجملة: إنّ الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنّة لا يعقل فيها هاتانالمرحلتان بالمعنى الدائر بينهم، فقوله تعالى: «وَللّهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»(1)إلخ، لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم، ولا معنى للفعليّة والشأنيّة في هذالحكم المجعول المنضبط، بل جعل الحكم على العنوان وإجرائه بين المكلّفينعند ذكر مخصّصاته ومقيّداته، يوجب فعليّة الحكم على عامّة الناس، سواءالعالم والجاهل والقادر والعاجز، وقد عرفت أنّ العقل يرفع حكم العقاب لنفس التكليف(2)، إنتهى كلامه قدسسره .
وحاصله: أنّ الأحكام وإن كانت على قسمين: إنشائي وفعلي، إلاّ أنّ القول
- (2) تهذيب الاُصول 1: 433.
ج2
بكونها فعليّة في حقّ العالم القادر وانشائيّة في حقّ الجاهل والعاجز ـ كما ذهبإليه المشهور ومنهم صاحب الكفاية ـ غير صحيح.
هل الأحكام القانونيّة تنحلّ إلى خطابات شخصيّة(1)؟
الثاني: أنّ كلّ حكم قانوني كـ «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ» فهو خطاب عامّ واحدمتعلّق بعامّة المكلّفين، ولا ينحلّ إلى خطابات شخصيّة متعدّدة بتعدّدهم.
ويشهد عليه أنّ التكاليف متوجّهة إلى العصاة كما هي متوجّهة إلىالمطيعين، وإلاّ فلم يعقل تسميتهم باسم العاصي، وحيث إنّ الأوامر والنواهيالشخصيّة لأجل الانبعاث والانزجار فهي مشروطة بعدم علم المولى بإتيانالعبد المأمور به أو تركه المنهيّ عنه من قبل نفسه حتّى فيما إذا لم يكن أمر أونهي في البين، لأنّ خطابه بالأمر والنهي حينئذٍ لغو، وكذا يشترط فيها عدمعلمه بعصيان العبد بتركه المأمور به أو ارتكابه المنهيّ عنه حتّى بعد الأمروالنهي، لما ذكر من لزوم اللغويّة.
نعم، لا بأس بتوجيه الأوامر والنواهي الشخصيّة الامتحانيّة والاعتذاريّةإلى العبد ولو مع علم الآمر بعدم انبعاثه وانزجاره عقيبهما، وأمّا التكاليفالحقيقيّة التي تصدر لأجل الامتثال فلا، إذ لا يعقل البعث والزجر لغرضالانبعاث والانزجار، مع العلم بعدم تحقّق الغرض، لأنّهما يستلزمان اللغويّة كمذكر.
فلايمكن لعلاّم الغيوب أن يكلّف العاصي بخطاب شخصي حقيقي.
بخلاف الخطاب الواحد العامّ المتوجّه إلى جميع المكلّفين الذين منهم العصاة،لأنّه لا يكون مشروطاً بعدم علم الآمر بعصيان بعضهم، بل هو مشروط بعدم
- (1) يترتّب على هذه المسألة ثمرات كثيرة قيّمة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه442)
علمه بعصيان الكلّ أو الجلّ، فلو علم بإطاعة طائفة منهم وعصيان طائفةاُخرى فلا ضير في توجيه الخطاب إلى الكلّ، لعدم استلزامه اللغويّة.
والحاصل: أنّ كلّ واحد من الخطابات الشرعيّة خطاب واحد متوجّه إلىالعموم، من دون أن ينحلّ إلى خطابات شخصيّة متعدّدة، بدليل شمولهللعاصين، مع أنّه لا يمكن تكليفهم بخطابات شخصيّة.
بل هي شاملة للكفّار أيضاً، بدليل ما ورد من أنّهم مكلّفون بالفروع، كمأنّهم مكلّفون بالاُصول، مع أنّ الإشكال المتقدّم بالنسبة إلى العصاة جارٍ هنأيضاً على تقدير انحلال الخطابات إلى خطابات شخصيّة.
لا يقال: بعض الخطابات وإن كانت عامّة لجميع الناس كآية الحجّ(1)، إلأنّ بعضها الآخر مختصّة بالمؤمنين كآيتي الصوم(2) والوضوء(3).
فإنّه يقال: إنّ الأخبار تدلّ على كون الكفّار مكلّفين بجميع الفروع، فلابدّحينئذٍ من أن يكون تخصيص المؤمنين بالخطاب في بعض الآيات إمّا للتجليل،أو لعلمه تعالى بأنّ هذا التكليف الشامل للكلّ لا يؤثّر إلاّ في خصوصهم، أولجهة اُخرى.
وبالجملة: كلّ واحد من الخطابات الشرعيّة خطاب واحد كلّي لا ينحلّإلى خطابات متعدّدة شخصيّة، بدليل شمولها للكفّار والعصاة.
حكم العلم الإجمالي الخارج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء
وبهذا يظهر أنّ حكمهم بعدم منجّزيّة العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه
- (1) وهي قوله تعالى: « وَللّهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً». آل عمران: 97.
- (2) وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ». البقرة: 183.
- (3) وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىالْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ». المائدة: 6.