هذا هو العنوان المذكر في كلمات الاُصوليّين، وظاهره أمران: أحدهما: أنّتقسيم الواجب بهذا اللحاظ ثنائي، والثاني: أنّ طرفي التقسيم هما عنوانالتعبّدي والتوصّلي، والحقّ أنّه لا يصحّ الجمع بينهما.
توضيح ذلك: أنّ التعبّدي من العبادة، وهي لغةً عمل خاصّ صادر منالعبد بقصد التقرّب إلى المعبود، سواء كان المعبود المتقرّب إليه هو اللّه تباركوتعالى، أو الصنم، فإنّ عبادة الصنم أيضاً مصداق حقيقي للعبادة لغةً، ولذا تعدّشركاً، ولكن ليس كلّ عمل صادر بقصد التقرّب إلى اللّه تعالى أو إلى غيرهعبادة، ألا ترى أنّ إطاعة الولد لوالده أوالعبد لمولاه لا تعدّ عبادة لهما، وإنصدرت بقصد التقرّب إليهما، وكذا إنقاذ الغريق وغسل الثوب النجس ليسعبادة وإن قصد المنقذ والغاسل امتثال أمر اللّه تعالى، نعم، يترتّب حينئذٍ عليهمالثواب، وكذلك الأمر في بعض الواجبات المشروطة بقصد القربة، كالزكاةوالخمس، إذ لا يصدق على المشتغل بأدائهما أنّه مشتغل بالعبادة.
فعلى هذا يعلم أنّ للعبادة مضافاً إلى اشتراطها بقصد القربة خصوصيّةاُخرى بها تمتاز عن سائر الواجبات المشروطة به.
والحقّ أنّ العبادات لا تعرف إلاّ من طريق الأدلّة الشرعيّة، وليستعباديّتها ذاتيّة.
واستدلّ من خالفنا في ذلك بأنّ السجود بين يدي الغير عبادة ذاتاً، فليتوقّف عباديّته على بيان الشارع.
وفيه: أنّه لو كان عبادة ذاتاً لكان سجود الملائكة لآدم عليهالسلام عبادةً له، فكانشركاً، فكيف أمرهم اللّه سبحانه به؟ مع أنّه قال: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَبِهِ»(1).
لا يقال: لعلّ هذه الآية خصّصت بما يستفاد من أمره تعالى الملائكةبالسجود لآدم عليهالسلام ، فكان حاصلها أنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به إلاّ ما كانبأمره تعالى.
فإنّه يقال: لسان الآية آبٍ عن التخصيص، فلا عبادة لغير اللّه إلاّ أنّها شركمحرّم.
فلابدّ من القول بعدم كون سجودهم له عليهالسلام عبادة، فلا يكون عباديّته ذاتيّة،فطريق معرفة العبادات ينحصر في بيان الشارع.
وبالجملة: إنّ الواجبات التقرّبيّة على قسمين: تعبّدي، كالصلاة والصيام،وغير تعبّدي، كالخمس والزكاة.
فتقسيم الواجب إلى التعبّدي والتوصّلي يوجب خروج بعض الواجباتعنه، فلابدّ إمّا من إبدال التعبّدي بالتقرّبي، أو من جعل التقسيم ثلاثيّاً، بأننقول: الواجب إمّا تعبّدي أو تقرّبي أو توصلّي، ونريد بالتقرّبي ـ بقرينة مقابلتهبالتعبّدي ـ خصوص غير العبادات من الواجبات التقرّبيّة، وأمّا جعل التقسيمثنائيّاً مع كون طرفيه عنواني التعبّدي والتوصّلي ـ كما فعله المشهور ـ فغيرصحيح كما تقدّم.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هاهنا مسائل كلّها مهمّة مستحقّة للبحث عنه
(صفحه82)
بالأصالة، وإن جعل بعضها مقدّمة للبعض الآخر في الكفاية.
بيان المراد بالتعبّدي(1) والتوصّلي
المسألة الاُولى: أنّ الحقّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ الوجوبالتوصّلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب، ويسقط بمجرّدوجوده، بخلاف التعبّدي، فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابدّ فيسقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقرّباً به منه تعالى(2).
وأمّا ما قيل من أنّ التعبّدي هو ما كان الغرض منه مجهولاً لنا، والتوصّليما كان الغرض منه معلوماً فغير صحيح، فإنّ الصلاة والصيام أمران تعبّديانمع أنّا نعلم الغرض منهما من طريق قوله تعالى: «أَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىعَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»(3) و «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَكُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(4).
فالملاك في التعبّديّة والتوصّليّة إنّما هو اعتبار قصد القربة في حصولالغرض وعدمه، لا الجهل بالغرض والعلم به.
إن قلت: كيف يصحّ تسمية الواجب التوصّلي واجباً؟ مع أنّه لا يعتبرصدوره من نفس المكلّف مباشرةً، بل يكفي تحقّقه بواسطة الغير، ولو بدونالاستنابة، فإذا تنجّس ثوب مثلاً ببول ما لا يؤكل لحمه فكيف يتوجّه إليهخطاب «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»؟ مع أنّه يكفي في سقوطهتطهيره بواسطة غيره وإن لم يستنبه في ذلك، بل يحصل الطهارة ويسقط الأمر
- (1) كلّما نعبّر بالتعبّدي فإنّما هو على مذاق المشهور، وإلاّ فقد عرفت أنّ الحقّ إنّما هو التعبير بالتقرّبي.منه مدّ ظلّه.
ج2
بإلقاء مثل الريح إيّاه في الماء، فيعلم من ذلك أنّ غسل الثوب لم يكن واجبعلى زيد.
قلت: لا يمكن المناقشة في الواجبات التوصّليّة، لا لأجل ثبوت التكليف،ولا لأجل سقوطه، أمّا الثبوت فلأنّه مشروط بكون المكلّف قادراً علىالامتثال، وهو حاصل فرضاً، وأمّا السقوط فلأنّ ملاكه حصول الغرض منالتكليف، سواء كان بفعل المكلّف، أو بفعل الغير، أو بواسطة اُخرى، ولمنافاة بين وجوب عمل على شخص وسقوطه عنه بفعل غيره ونحوه إذحصل الغرض به.
إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر
في إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر
المسألة الثانية: ذهب المحقّق الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله إلى استحالة(1)أخذ قصد التقرّب المعتبر في الواجب التعبّدي في متعلّق الأمر شرعاً مطلقاً،أي شرطاً أو شطراً، وهو رحمهالله أوّل من تنبّه إلى هذه المسألة، وعنونها في مباحثهالاُصوليّة، ثمّ تبعه في القول بالاستحالة تلامذته، منهم المحقّق الخراساني رحمهالله فيالكفاية، وإن اختلفوا في كيفيّتها وإقامة البرهان عليها، فذهب بعضهم إلىالاستحالة بالذات، وبعضهم إلى الاستحالة بالغير.
ثمرة المسألة
- (1) لابدّ أن يعلم أنّ القائلين بالاستحالة إنّما قالوا بها إن اُريد بقصد القربة إتيان المأمور به بداعي الأمر، وأمّلو اُريد به إتيانه لأجل محبوبيّته للولى، أو لأجل كونه ذا مصلحة ملزمة، أو لأجل كونه أمراً حسناً، كما فيالزكاة، فإنّها إحسان إلى الفقير، أو لحصول القرب إلى المولى، فلا استحالة في أخذه في متعلّق الأمرعندهم أيضاً. منه مدّ ظلّه.