(صفحه118)
كلامه في هذا المقام.
وحاصله: أنّه لا يكاد يصحّ التمسّك بالإطلاق اللفظي في موارد الشكّ فيالتعبّديّة والتوصّليّة لاستظهار التوصّليّة، لكن يصحّ إثباتها في هذه الموارد منطريق الإطلاق المقامي لو اُحرز، ولو لم يحرز، سواء اُحرز عدمه أو كانمشكوكاً فيه لكان المرجع هو الاُصول العمليّة.
الفرق بين الإطلاق اللفظي والمقامي
والفرق بين الإطلاقين في ثلاثة اُمور:
الأوّل: أنّ الإطلاق اللفظي مربوط باللفظ، والمقامي بمقام كون المتكلّمبصدد بيان كلّ ما له دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في متعلّقأمره.
الثاني: أنّ المولى في الإطلاق اللفظي في مقام الإنشاء، وإن كان كلامهبصورة الإخبار، كما في قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور»(1)، فإنّه يكون بمعنى«يشترط الطهور في الصلاة»، لأنّ المولى في الإطلاقات اللفظيّة في مقام بيانالحكم، فلا محالة يكون كلامه إنشاءً واقعاً وإن كان في قالب الإخبار أحياناً،بخلاف الإطلاق المقامي، فإنّ المولى فيه ـ بما أنّه عالم بحقائق الاُمور ـ يكون فيمقام الإخبار وبيان ما له دخل في غرضه.
الثالث: أنّه كما نتمسّك بالإطلاق اللفظي فيما إذا أحرزنا كون المولى في مقامالبيان كذلك نتمسّك به عند الشكّ في ذلك، بخلاف الإطلاق المقامي، فإنّه ليجوز التمسّك به إلاّ إذا اُحرز كونه بصدد بيان جميع ما له دخل في غرضه،
- (1) وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
ج2
وذلك لأنّ بناء العقلاء ـ عند الشكّ ـ على كونه في مقام البيان في الإطلاقاللفظي دون المقامي.
نظريّة المحقّق الحائري رحمهالله في المقام
و نقل سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره كلاماً عن المحقّق الحائري، حيثقال:في موارد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة
ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة «أعلى اللّه مقامه» بعدما كان بانياً على جواز أخذقصد القربة في متعلّق الأمر، وأنّ الأصل في الأوامر كونها توصّليّة، رجع فيأواخر عمره الشريف إلى أصالة التعبّديّة، وبه عدل عن كثير من مبانيهالسابقة، وملخّص ما أفاده مبني على مقدّمات:
منها: أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بنفس الطبائع، أي المفاهيم الكلّيّة اللابشرطيّةالعارية عن كلّ قيد، لا بصرف الوجود، أو الوجود السعي(1).
ومنها: أنّ العلل التشريعيّة كالعلل التكوينيّة طابق النعل بالنعل، فكلّ مهو من مقتضيات الثانية يكون من مقتضيات الاُولى أيضاً، كتكثّر المعلولبتكثّر علّته، وكعدم انفكاك المعلول عنها، وغير ذلك، وعلى ذلك بنى قدسسره القولبعدم التداخل في الأسباب الشرعيّة.
وأمّا كفاية غسل واحد عقيب جنابات متعدّدة متعاقبة فلدلالة دليلخاصّ شرعي على التداخل في مثل هذا المورد، وإلاّ فالقاعدة كانت تقتضيلزوم تعدّد الأغسال بتعداد الجنابات.
وبنى على ذلك أيضاً القول بظهور الأمر في الفور ودلالته على المرّة، فإنّ
- (1) صرف الوجود: عبارة عن أصل وجود الطبيعة، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر، والوجود السعي:عبارة عن الوجود الساري في جميع مصاديقها. منه مدّ ظلّه.
(صفحه120)
المسبّبات التكوينيّة تتحقّق عقيب أسبابها فوراً، ولا يمكن أن يصدر من سببواحد إلاّ مسبّب واحد، فالمأمور به أيضاً الذي هو مسبّب شرعي عن الأمرلابدّ من أن يتحقّق فوراً، ولا يكون الأمر سبباً لتحقّقه أكثر من مرّة، كما فيالتكوينيّات طابق النعل بالنعل.
ومنها: أنّ القيود بعضها يمكن أخذها في المتعلّق على نحو القيديّة اللحاظيّة،كالطهارة والسورة، فإنّ الآمر يتمكّن من أن يقول: «صلِّ مع الطهارة» أو«صلِّ مع السورة»، وبعضها لا يمكن أخذها في المتعلّق وتقييده بها، إلاّ أنّه لينطبق إلاّ على المقيّد، بمعنى أنّ له ضيقاً ذاتيّاً لا يتّسع غيره، كمقدّمة الواجببناءً على وجوبها، فإنّ المأمور به بالأمر الغيري ليس هو المقدّمة مطلقاً،موصلة كانت أم لا، لعدم الملاك فيها، ولا المقدّمة المقيّدة بكونها موصلة،وذلك لأنّه ليس المراد بالإيصال لحاظه ذهناً، بل المراد الإيصال الخارجي، أيترتّب ذي المقدّمة عليها خارجاً، ولا يعقل تقيّد المقدّمة بهذا الترتّب الخارجيثمّ تعلّق الأمر بهذا المقيّد بما هو مقيّد، فالواجب بالوجوب الغيري ليس هوالمقدّمة مطلقاً، ولا المقدّمة المقيّدة بالإيصال، ولكنّه لا ينطبق إلاّ على المقدّمةالموصلة، وكالعلل التكوينيّة، فإنّ تأثيرها ليس في الماهيّة المطلقة ولا المقيّدةبقيد المتأثّر من قبلها، فإنّها ممتنعة، بل في الماهيّة التي لا تنطبق إلاّ على المقيّدبهذا القيد، كالنار، فإنّ معلولها ليست الحرارة المطلقة، سواء كانت متولّدة عنهأم لا، ولا المقيّدة بكونها من علّتها التي هي النار، لكنّها لا تؤثّر إلاّ في المعلولالمنطبق على المخصوص.
إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول: إنّ المأمور به ليس إلاّ نفس الطبيعة القابلةللتكثّر بحكم المقدّمة الاُولى، كما أنّ المبعوث إليه ليست الصلاة المطلقة، سواءكانت مبعوثاً إليها بهذا الأمر أم بغيره، لعدم ترتّب الغرض عليها، ولا المقيّدة
ج2
بكونها مأموراً بها بأمرها المتعلّق بها، لاستحالة التقييد فرضاً، بل ما لا ينطبقإلاّ على الأخير، لا بنحو الاشتراط، بل له ضيق ذاتي لا يبعث إلاّ نحو المأموربها، كما في العلل التكوينيّة، وبعبارة أوضح: إنّ الأوامر تحرّك المكلّف نحوالطبيعة التي لا تنطبق لبّاً إلاّ على المقيّدة بتحريكها، فإذا أتى المكلّف بها منغير دعوة الأمر لا يكون آتياً بالمأمور به، لأنّه لا ينطبق إلاّ على المقيّد بدعوةالأمر، فمقتضى الأصل اللفظي هو كون الأوامر تعبّديّة قربيّة(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الحائري رحمهالله في المقام على ما نقله سيّدنا الاُستاذالإمام قدسسره .
ولا يخفى أنّه لو تمّ لكان ردّاً على المحقّق الخراساني رحمهالله حيث عرفت أنّهذهب إلى عدم أصل لفظي في المقام يتمسّك به، بل لابدّ من التمسّك بالإطلاقالمقامي لو كان، وإلاّ فبالاُصول العمليّة، لكنّ المحقّق الحائري ذهب إلى وجودأصل لفظي يقتضي تعبّديّة الأوامر وقربيّتها.
نقد كلامه «أعلى اللّه مقامه»
وكيف كان، ففي كلامه نظر، فإنّ المقدّمات الثلاث على فرض تماميّتها لتقتضي كون الأوامر تعبّديّة عند الشكّ، فإنّ التضيّق الذاتي إنّما هو فيالواجبات التعبّديّة فقط، لا مطلقاً، والفرض أنّ التعبّديّة مشكوكة لنا، فكيفيمكن القول بكون مقتضى الأصل اللفظي تعبّديّة الأوامر؟!
على أنّ في المقدّمات أيضاً مناقشات أوردها سيّدنا الاُستاذ الأعظمالإمام قدسسره ونحن نذكر واحدة منها:
وهي أنّ قياس التشريع بالتكوين قياس مع الفارق من جهات عديدة:
- (1) تهذيب الاُصول 1: 225.
(صفحه122)
الاُولى: أنّ المعلول في العلل التكوينيّة خصوصاً في الفاعل الإلهي الذي هوالعلّة الحقيقيّة، لا الفاعل المادّي الذي هو في سلك المعدّات والعلل الإعداديّة،إنّما هو ربط محض بعلّته، لا شيئيّة له قبل تأثير علّته، ففعليّته ظلّ فعليّة علّته،فهو ربط محض بها، لا أنّه شيء له الربط بها، وهذا بخلاف التشريع، فإنّالأسباب الشرعيّة ليست موجدة لمسبّباتها، والمسبّبات ليست أظلالاً وأشعّةًلها، كما في التكوينيّات، بل الأسباب الشرعيّة ليست كالمعدّات التكوينيّةأيضاً، إذ ليس ارتباط الضمان بالإتلاف، أو وجوب الصلاة بدلوك الشمسمثلاً كارتباط الإحراق بالنار كما هو واضح، بل لو ورد في الشريعة أنّالإتلاف سبب للضمان، أو دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة لكان معناه أنّالشارع يحكم عقيبهما بالضمان ووجوب الصلاة، وليس معناه العلّيّة ولالمعدّيّة، وإن عبّر عنهما في لسان الدليل بالسبب فرضاً.
الثانية: أنّ الأمر لا يخلو إمّا أن يكون بمعنى الإرادة أو بمعنى البعثوالتحريك الاعتباري، ولا يعقل كونه علّةً للصلاة مثلاً بأيّ معنى من المعنييناُخذ، فإنّ الإرادة من الاُمور ذات الإضافة، فهي متقوّمة بالمريد والمراد،فرتبتها متأخّرة عن رتبة المراد، فكيف يمكن أن تكون علّةً له مع أنّ العلّةمتقدّمة رتبةً على معلولها؟! والبعث والتحريك الاعتباري أيضاً كذلك، فإنّهأمر إضافي متقوّم بالباعث والمبعوث إليه، فرتبته متأخّرة عن رتبة المبعوثإليه، فكيف يمكن أن يكون علّة له؟!
الثالثة: ما اختاره من تكثّر المعلول بتكثّر علّته وعدم تداخل الأسباب فيالشرعيّات كالتكوينيّات، فإنّ اقتضاء كلّ علّة تكوينيّة معلولاً مستقلاًّ إنّما هولقضيّة إيجاب كلّ علّة مؤثّرة بوجودها وجوداً آخر مسانخاً لوجودها يكونمعلولاً ووجوداً ظلّيّاً لها، وأمّا الإرادة فلا معنى لتعلّقها بشيء واحد زمان