(صفحه70)
الترك، بل ينافيه، لوضوح عدم إمكان اجتماع البعث والتحريك نحو العمل معالإذن في الترك المساوق لعدم البعث.
وعلى هذا فيجب أن يقال: إنّ الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكونمستعملة في الطلب البعثي، ولا تتضمّن البعث والتحريك، وإنّما تستعمل بداعيالإرشاد إلى وجود المصلحة الراجحة في الفعل، وببالي أنّ صاحب القوانينأيضاً اختار هذا المعنى، فقال: «إنّ الأوامر الندبيّة كلّها للإرشاد» وهو كلامجيّد(1)، إنتهى.
أقول: في كلامه رحمهالله تهافت، فإنّه عدل عن التمسّك بالتبادر ـ لعدم تماميّتهعنده ـ إلى هذا الدليل، مع أنّ كلامه هذا يدلّ على كون اللزوم والوجوبدخيلاً في ماهيّة البعث والتحريك الاعتباري الذي وضع الصيغة له، بحيث ليمكن للمولى الإذن في الترك، وهذا يقتضي تبادر الوجوب عنها، وبعبارةاُخرى: كيف يمكن الجمع بين إنكار وضع الصيغة للبعث والتحريك الوجوبيمن طرف، وبين تسلّم كونها موضوعة للبعث والتحريك من طرف آخر معالقول بكون اللزوم والوجوب دخيلاً في ذات البعث والتحريك بحيث لا يمكنالإذن في الترك عقيبه؟!
ويمكن المناقشة في أصل الدليل أيضاً بأنّ حكم العقل والعقلاء لابدّ له منملاك، ولا ملاك لحكمهما بكون صدور الأمر حجّة على العبد موجبلاستحقاقه العقوبة على المخالفة بعد إنكارهم الأدلّة الاُخرى(2) كما هو ظاهرعدولهم عنها إلى هذا الدليل الخامس.
والحاصل: أنّ الحقّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّه لا يبعد تبادر
- (2) وهي التبادر والانصراف والإطلاق والكاشفيّة العقلائيّة. م ح ـ ى.
ج2
الوجوب عن الصيغة عند استعمالها بلا قرينة، وإن كان سائر الأدلّة غير تامّة.
(صفحه72)
في الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء
المبحث الثالث: في الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء
هل الجملة الخبريّة الّتي قصد بها الإنشاء وبيان الحكم ـ مثل يغتسل(1)ويتوضّأ ويعيد ـ ظاهرة في الوجوب أو لا؟
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : الظاهر الأوّل، بل يكون أظهر من الصيغة، ولكنّهلا يخفى أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملةفي غير معناها(2)، بل تكون مستعملة فيه، إلاّ أنّه ليس بداعي الإعلام، بلبداعي البعث بنحو الآكد حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاربأنّه لا يرضى إلاّ بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال فيالصيغ الإنشائيّة على ما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعيّة لكنبدواعٍ اُخر كما مرّ.
لا يقال: كيف ويلزم الكذب كثيراً، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك فيالخارج، تعالى اللّه وأوليائه عن ذلك علوّاً كبيراً.
- (1) الغالب استعمال المضارع في مقام الإنشاء، لكن قد يستعمل الماضي أيضاً كذلك، كما في قوله عليهالسلام : «قامفأضاف إليها اُخرى». وسائل الشيعة 8: 217، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة،الحديث 3.
- (2) وهو ثبوت النسبة بين الفعل والفاعل في الموجبات وعدمها في السوالب. منه مدّ ظلّه.
ج2
فإنّه يقال: إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام لا لداعيالبعث، كيف وإلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل «زيد كثير الرماد» أو«مهزول الفصيل» لا يكون كذباً إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رمادأو فصيل أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر فيمقام التأكيد أبلغ، فإنّه مقال بمقتضى الحال.
هذا مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها علىالوجوب، فإنّ تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه فلا أقلّ من كونهموجبة لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده، فإنّ شدّة مناسبة الإخباربالوقوع مع الوجوب موجبة لتعيّن إرادته إذا كان بصدد البيان مع عدم نصبقرينة خاصّة على غيره(1)، إنتهى.
وذهب بعضهم إلى عدم ظهورها في الوجوب، لتعدّد المجازات فيها، وليسالوجوب بأقواها بعد تعذّر حملها على معناها.
بيان الحقّ في المسألة
أقول: قد عرفت أنّ أهمّ ما استدلّ به على ظهور الصيغة في الوجوبأمران: 1ـ حكم العقل والعقلاء بأنّ صدورها عن المولى حجّة على العبدوموجب لاستحقاقه العقوبة على المخالفة، 2ـ تبادر الوجوب عند استعمالها بلقرينة.
فمن تمسّك هناك بالأوّل ـ كالإمام الخميني وآية اللّه البروجردي ـ فلإشكال في جواز تمسّكه به هنا أيضاً، لعدم الفرق في البعث والتحريكالاعتباري بين كونه مستفاداً من الصيغة وبين كونه مستفاداً من الجملة
(صفحه74)
الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء، فإذا كان في الأوّل حجّة على العبد كان فيالثاني أيضاً كذلك من غير أن يكون أحدهما أقوى وآكد من الآخر في إفادةالوجوب.
نعم، بينهما فرق من جهة كونه في الأوّل مفاداً حقيقيّاً للصيغة، وفي الثانيمفاداً مجازيّاً للجملة الخبريّة، لكنّه ليس فارقاً فيما تقدّم من حكم العقلوالعقلاء.
وأمّا من تمسّك هناك بالتبادر كما قوّيناه تبعاً للمحقّق الخراساني رحمهالله فلمجال للتمسّك به هاهنا، للعلم بعدم كون الجملة الخبريّة موضوعة للوجوب،بل لثبوت النسبة بين الفعل والفاعل.
ولكنّ الذي يسهّل الخطب أنّا لسنا في المقام بصدد ما وضع له الجملةالخبريّة، بل بصدد المعنى الذي هي ظاهرة فيه فيما إذا استعملت في مقامالإنشاء وبيان الحكم، والظهور أعمّ من الحقيقة، ويمكن إثباته ببعض الأخبارالصحيحة، مثل صحيحة زرارة التي استدلّوا بها على حجّيّة الاستصحاب،قال: قلت(1): أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أناُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثمّإنّي ذكرت بعد ذلك، قال: «تعيد الصلاة وتغسله»، قلت: فإن لم أكن رأيتموضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته،قال: «تغسله وتعيد الصلاة»، قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك،فنظرت فلم أرَ فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيته فيه، قال: «تغسله ولا تعيد الصلاة»،قلت: لِمَ ذاك؟ قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس
- (1) وهذه الرواية وإن كانت مضمرة، إلاّ أنّ إضمارها لا يضرّ باعتبارها حيث كان مضمرها زرارة، ومثله ليكاد يستفتى من غير الإمام المعصوم عليهالسلام . م ح ـ ى.