ج2
أقول: قوله: «لم تستعمل إلاّ في إنشاء الطلب» ظاهر في كون المستعمل فيههو الإنشاء، ولا يخفى أنّ الإنشاء عنده من مقوّمات الاستعمال كما نفى البُعدعنه في أواخر الأمر الثاني من المقدّمة(1)، فالظاهر أنّ في عبارته هنا مسامحةً،ومراده كون المستعمل فيه هو الطلب الإنشائي، ومنه تظهر المسامحة في قوله:«موضوعة لإنشاء الطلب» أيضاً.
وكيف كان، فكلامه هذا مبنيّ على ما اختاره من قابليّة الطلب للإنشاء.
الحقّ في المسألة
وأمّا على ما اخترناه من عدم تعلّق الإنشاء بالطلب فالمنشأ بهيئة «افعل»إنّما هو البعث والتحريك، سواء استعملت الصيغة وكان غرض المستعمل تحقّقالمأمور به في الخارج، كما إذا قال المولى العطشان لعبده: «جئني بالماء» أواستعملت وكان غرضه أمراً آخر، كالتهديد والتسخير والتعجيز ونحوها.
فلابدّ من توضيح المطلب بالنسبة إلى كلا القسمين:
أمّا القسم الأوّل ـ أعني ما إذا استعمل الأمر بقصد وقوع المأمور به فتوضيحه يتوقّف إلى بيان اُمور ثلاثة:
1ـ أنّ الآمر في هذا القسم يرغب إلى التوصّل إلى المأمور به بلا إشكال،وليس بين الأمر والرغبة ملازمة بحيث لو لم يأمر لم تتحقّق الرغبة، بل قديكون الإنسان يحبّ شيئاً من دون أن يأمر بإتيانه، إمّا لعدم كونه ذا عبد،أو لغير ذلك. نعم، الأمر أمارة تحقّق الرغبة في نفس المولى، من دون أن يكونبينهما ارتباط وملازمة.
(صفحه56)
2ـ أنّ الأمر ليس علّة لتحقّق المأمور به، بل يوجب تحقّق الإطاعةوالعصيان، بمعنى أنّ العبد إذا وافقه عدّ مطيعاً، وإذا خالفه عدّ عاصياً، ولو لالأمر لم يصدق عليه المطيع ولا العاصي كما هو واضح.
3ـ أنّ البعث والتحريك تارةً يكون تكوينيّاً واقعيّاً، كما إذا أخذ المولى بيدالعبد وجرّه إلى تحقّق مطلوبه، واُخرى اعتباريّاً يتحقّق بواسطة صدور الأمر،والمطلوب لا يتخلّف عن البعث والتحريك في الأوّل، لعدم إمكان العصيانفيه، بخلاف الثاني كما لا يخفى.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المنشأ بهيئة «افعل» إنّما هو القسم الثاني من البعثوالتحريك، وهو أمر اعتباري يعتبره العقلاء والشارع عقيب التلفّظ بهيئة«افعل»، ويترتّب عليه استحقاق المثوبة على الموافقة، والعقوبة على المخالفة، كميترتّب على سائر الاُمور الاعتباريّة آثارها.
لا يقال: لا فرق بين البعث والطلب، فلا يتمّ ما ذهبتم إليه من أنّ المنشأ هوالبعث ولا يمكن تعلّق الإنشاء بالطلب، فالنزاع بينكم وبين المحقّقالخراساني رحمهالله إنّما هو في التسمية، حيث إنّ الإنشاء تعلّق بأمر يسمّيه الطلبوتسمّونه البعث.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ الطلب إنّما هو نفس الأمر، أعني قول المولى: «جئنيبالماء» وهو أمر واقعي لا يمكن تعلّق الإنشاء به كما تقدّم، فإنّه نفس الإنشاءلا ما تعلّق به الإنشاء، وأمّا البعث الذي تعلّق به الإنشاء فهو أمر اعتبارييوجد بذلك القول في عالم الاعتبار، فبينهما بون بعيد.
وبعبارة اُخرى: الطلب إنّما هو إنشاء البعث والتحريك الاعتباري، وأمّنفس البعث والتحريك الذي تعلّق به الإنشاء فهو مغاير للطلب.
ويشهد له أنّ البعث دائماً يتقوّم بشخصين: أحدهما الباعث والآخر
ج2
المبعوث، وفيه شيء ثالث أيضاً، وهو المبعوث إليه، بخلاف الطلب الذي أحدطرفيه شخص ذو العقل، وهو الطالب، وطرفه الآخر وهو المطلوب يكونغالباً من غير ذوي العقول، وليس له أمر ثالث، فيقال: طالب العلم، طالبالدُّنيا، طالب الآخرة، ونحوها.
إن قلت: قد يرى في الطلب أيضاً شخص آخر غير الطالب والمطلوب، وهوالمطلوب منه.
قلت: لم نجد في كتب اللغة أثراً من عنوان «المطلوب منه» بل جعل هذالعنوان ناشٍ عن أنّهم تخيّلوا أنّ هيئة «افعل» تكون لإنشاء الطلب، ولا يمكنعدم إضافة الطلب المنشأ بها إلى المكلّف، فإذا قال المولى لعبده: «جئني بالماء»فكما أنّ المولى يسمّى طالباً، والماء مطلوباً، فلابدّ من أن يسمّى العبد أيضمطلوباً منه.
على أنّه شاهد على المغايرة بين البعث والطلب، لا على الاتّحاد، لأنّ المرادبـ «المطلوب منه» هو المبعوث، والمراد بـ «المطلوب» هو المبعوث إليه، فالذيتعلّق به حرف الجرّ في كلّ منهما غير الذي تعلّق به في الآخر، على أنّ حرفالجرّ في أحدهما «من» وفي الآخر «إلى» فكيف يمكن أن يكونا متّحدينبحسب المعنى؟!
وبالجملة: الطلب على ثلاثة أقسام، فإنّ من يريد تحقّق شيء تارةً يحصّلهبنفسه، واُخرى يكره الغير على تحصيله، كالأخذ بيده وجرّه إليه بنحو يصيرمسلوب الاختيار، وثالثة يأمره على تحصيله، وكلّها اُمور واقعيّة لا يتعلّق بهالإنشاء، وأمّا البعث فهو على قسمين كما تقدّم: حقيقي واعتباري، والثاني هوالذي تعلّق به الإنشاء في صيغة الأمر.
هذا كلّه فيما إذا كان غرض المستعمل تحقّق المأمور به في الخارج.
(صفحه58)
وأمّا القسم الثاني ـ أعني ما إذا كان غرضه أمراً آخر ـ من التهديدوالتسخير والتعجيز وغيرها، فالصيغة في هذه الموارد استعملت أيضاً في إنشاءالبعث والتحريك، لكن بادّعاء كون التهديد مثلاً من مصاديقهما أيضاً.
والحاصل: أنّ هيئة «افعل» وضعت لإنشاء البعث والتحريك، واستعمالها فيسائر الموارد مجاز، لكن قد عرفت(1) أنّ المجاز ليس من قبيل استعمال اللفظ فيغير ما وضع له، بل هو استعماله في المعنى الحقيقي كما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذالأعظم الإمام قدسسره تبعاً لاُستاذه الشيخ محمّد رضا الاصفهاني النجفي صاحبكتاب «وقاية الأذهان»، فإذا استعملت صيغة الأمر في مقام التهديد مثلاستعملت في معناه الحقيقي، بادّعاء توسعته بحيث يشمل التهديد أيضاً، فيكونمصداقاً ادّعائيّاً له.
إزاحة شبهة
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال في مقام دفع شبهة قرآنيّة:
إيقاظ: لا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصيغ الإنشائيّة،فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمنّي أو الترجّي أو الاستفهام بصيغها تارةً هوثبوت هذه الصفات حقيقةً، يكون الداعي غيرها اُخرى، فلا وجه للالتزامبانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى،لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه تبارك وتعالى ممّا لازمه العجز(2) أوالجهل(3)، وأنّه لا وجه له(4)، فإنّ المستحيل إنّما هو الحقيقي منها لا الإنشائي
- (1) راجع «الأمر الثالث: في استعمال اللفظ في المعنى المجازي» ص235 من الجزء الأوّل.
- (2) كما في التمنّي. م ح ـ ى.
- (3) كما في الترجّي والاستفهام. م ح ـ ى.
- (4) قال آية اللّه الحكيم في حقائق الاُصول: هذا تأكيد لقوله: «لا وجه للالتزام». م ح ـ ى.
ج2
الإيقاعي الذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصيغة كما عرفت، ففي كلامهتعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضاً، لا لإظهار ثبوتهحقيقةً، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبّة(1) أو الإنكار،أو التقرير، إلى غير ذلك، ومنه ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغةالاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً(2)، إنتهى كلامه.
أقول: إنّ التمنّي والترجّي والاستفهام اُمور حقيقيّة قائمة بالنفس، فلا يتعلّقبها الإنشاء، فلابدّ من حلّ إشكال استعمال أدواتها في القرآن بما مرّ نظيره فيصيغة الأمر، من أنّ أدوات التمنّي والترجّي والاستفهام موضوعة لإظهارالحقيقي من هذه الاُمور، ومستعملة فيه دائماً، حتّى في كلامه تعالى، لكنبادّعاء توسعة المعنى الحقيقي، بحيث يعمّ مثل إظهار المحبّة ونحوه، فإذاستعملت في إظهار معانيها مع تحقّقها حقيقةً في النفس كان حقيقةً، وإلفمجازاً(3).
- (1) كما في قوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى» طه: 17. م ح ـ ى.
- (3) الحقيقة: من الحقّ، وهو بمعنى الثبوت، والمجاز: من الجواز، وهو بمعنى العبور، فإنّا إذا استعملنا اللفظفي معناه حال كونه ثابتاً، أعني من دون أن يكون معبراً للوصول إلى المعنى المجازي الذي هو مصداقادّعائي له كان حقيقةً، وإذا استعملناه فيه حال كونه معبراً للوصول إليه كان مجازاً. منه مدّ ظلّه.