(صفحه66)
الإرادة التي هي علّته.
وإذا كان نفس البعث والتحريك منقسماً إلى قسمين: شديد وضعيف، فليبعد دعوى تبادر خصوص الأوّل، وهو البعث الوجوبي من الصيغة عنداستعمالها بلا قرينة، كما قال صاحب الكفاية.
نقد دعوى انصراف الصيغة إلى الوجوب
وأمّا الدليل الثاني: فيدفعه أنّ صاحب المعالم رحمهالله ـ مع ذهابه إلى كون الصيغةحقيقةً في خصوص الوجوب ـ قال: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّةعن الأئمّة عليهمالسلام أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيثصار من المجازات الراجحة(1) المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عندانتفاء المرجّح الخارجي، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورودالأمر به منهم عليهمالسلام (2)، إنتهى.
فأين كثرة استعمالها في الوجوب حتّى تكون منصرفةً إليه؟!
وأورد المحقّق الخراساني رحمهالله على صاحب المعالم بأنّ المعنى المجازي لا يصيرمجازاً راجحاً إلاّ إذا كثر استعمال اللفظ فيه من دون قرينة متّصلة، ليتحقّقالاُنس والربط الشديد بينهما، كما لو استعمل لفظ «أسد» مثلاً في الرجلالشجاع كثيراً، واُقيمت القرينة الدالّة على المراد في كلّ مورد منفصلة بعدالاستعمال، فإذا تحقّق كثرة الاستعمال كذلك تحقّق بينهما اُنس شديد بحيث إذاُطلق بلا قرينة لم يجز حمله على المعنى الحقيقي، وصيغة الأمر وإن كثر استعمالهفي الندب، إلاّ أنّ هذه الاستعمالات مقرونة بالقرينة المتّصلة، وهي لا توجب
- (1) واختلف في أنّ المجاز المشهور هل يوجب حمل اللفظ عليه عند استعماله بلا قرينة، أو يوجبالتوقّف بينه وبين المعنى الحقيقي. منه مدّ ظلّه.
- (2) معالم الدِّين وملاذ المجتهدين: 53.
ج2
صيرورته مجازاً راجحاً(1).
وهذا كلام متين، ولكن لا يخفى عليك أنّه يبطل دعوى كون الندب مجازراجحاً، ولكنّه لا يصحّح دعوى انصراف الصيغة إلى الوجوب، لتوقّفه علىكثرة استعمالها فيه، وهي ممنوعة بعدما عرفت من كثرة الاستعمال في الندب كمهو واضح.
نقد دعوى استفادة الوجوب من إطلاق الصيغة
ويرد على الدليل الثالث ـ وهو مسألة الإطلاق ومقدّمات الحكمة أوّلاً: ما تقدّم في مادّة الأمر من استلزامه اتّحاد المقسم مع أحد قسميه،وهو واضح البطلان، ضرورة أنّ كلّ قسم مشتمل على المقسم وعلى أمرزائد عليه، سواء كان المقسم ماهيّة منقسمة إلى أفرادها، كانقسام«الإنسان» إلىزيد وعمرو وبكر، أو إلى أصنافها، كانقسام «الإنسان»إلى الأبيض والأسود، أو إلى أنواعها، كانقسام «الحيوان» إلى الإنسانوالبقر والفرس.
وثانياً(2): أنّ مقدّمات الحكمة لا تثبت إلاّ نفس البعث(3) والتحريك الذيهو القدر المشترك بين الفردين.
توضيحه: أنّ اللفظ إنّما يدلّ على ما وضع بإزائه دون غيره من اللوازموالمقارنات، والمفروض أنّ صيغة الأمر وضعت لنفس الجامع بلا خصوصيّةفرديّة، والإطلاق المفروض لا يفيد إلاّ كون ما وقع تحت البيان تمام المراد، وقد
- (2) ويمكن أن يجاب بهذا الجواب أيضاً عن الاستدلال بالإطلاق لإثبات ظهور مادّة الأمر في الوجوب.منه مدّ ظلّه.
- (3) والقائلون بكون الصيغة لإنشاء الطلب يعبّرون عن القدر المشترك به دون البعث والتحريك، ولا فرقبينهما في هذا البحث. منه مدّ ظلّه.
(صفحه68)
فرضنا أنّ البيان بمقدار الوضع، ولم يقع الوضع إلاّ لنفس الجامع، دونالخصوصيّة، فمن أين يستفاد كون الوجوب هو المراد دون الجامع مع أنّمصبّ المقدّمات هو الثاني دون الأوّل، والدلالة والبيان يتوجّه إلى الجامعدون الوجوب، وبعبارة اُخرى: إذا تحقّق الإطلاق لابدّ من الاقتصار علىالموضوع له ولا يجوز التعدّي والعبور منها إلى بعض أفراده، فكما إذا قالالمولى: «أعتق رقبة» كان نتيجة الإطلاق حمل الرقبة على ما وضعت له منغير أن نتجاوز منه إلى غيره فكذلك الأمر في المقام.
نقد القول بالكاشفيّة العقلائيّة
ويرد على الوجه الرابع أنّه لا دليل على كون صدور الأمر كاشفاً عقلائيّعن الإرادة الحتميّة، بل الدليل على خلافه، فإنّ الكاشفيّة العقلائيّة لابدّ لها منمنشأ، ولا منشأ لها في المقام بعد إنكار الوضع والانصراف.
نعم، صدور الأمر كاشف عقلاً عن الإرادة، لما تقدّم من مسبوقيّة كلّ فعلاختياري بها، لكنّه أوّلاً: كاشف عن أصل الإرادة لا عن الإرادة الحتميّةالشديدة، وثانياً: ما تعلّق به كلّ منهما غير ما تعلّق به الاُخرى، فإنّ الإرادةالمنكشفة عن صدور الأمر تعلّقت به(1)، والإرادة التي يدّعى أنّها حتميّةشديدة موجبة لكون البعث والتحريك وجوبيّاً تعلّقت بفعل العبد.
وبعبارة اُخرى: إنّ المولى إذا قال لعبده: «ادخل السوق واشتر اللحم» كانله إرادتان: إحداهما: إرادة صدور الأمر، أعني إرادة التكلّم بقوله: «ادخلالسوق واشتر اللحم»، والثانية: إرادة تحقّق المأمور به في الخارج بواسطةالعبد، وما ينكشف بسبب الفعل الاختياري هو الإرادة الاُولى، وما له دخل
- (1) أي بصدور الأمر. م ح ـ ى.
ج2
في صيرورة البعث والتحريك وجوبيّاً أو استحبابيّاً هو الثانية.
والحاصل: أنّ الكاشفيّة العقلائيّة لا منشأ لها أصلاً، وأمّا الكاشفيّة العقليّةفهي مربوطة بأصل الإرادة لا الإرادة الحتميّة أوّلاً، والإرادة الموجبةلصيرورة البعث والتحريك وجوبيّاً أو استحبابيّاً هي الإرادة المتعلّقة بفعلالعبد لا المتعلّقة بصدور الأمر ثانياً.
إبطال دعوى حكم العقل بظهور الصيغة في الوجوب
وأمّا مسألة حكم(1) العقل والعقلاء على تماميّة الحجّة على العبد عند صدورالبعث من المولى فهي وإن قال بها كثير من الأعلام منهم سيّدنا الاُستاذالأعظم الإمام وآية اللّه البروجردي، إلاّ أنّها أيضاً مع ذلك لا تتمّ عندنا.
وينبغي توضيح هذا الدليل قبل بيان الإشكال الوارد عليه بنظري القاصر،فنقول: تقريب الاستدلال به أنّ العقل والعقلاء إذا لاحظا الزمان الذي قبلصدور الأمر والزمان الذي بعده حكما بتغايرهما من حيث توجّه الأمر إلىالعبد في الزمان الثاني دون الأوّل، والأمر الصادر من المولى حجّة على العبد،فلابدّ له من الخروج عن عهدتها، ولا يجوز له ترك المأمور به كما كان له تركهقبل صدور الأمر، ولو تركه بعد الصدور لاستحقّ العقوبة، وهذا معنى ظهورالصيغة في الوجوب.
بل ذهب آية اللّه البروجردي رحمهالله إلى عدم جواز الإذن في الترك من قبلالمولى بواسطة دالّ آخر، فإليك بيانه:
بل يمكن أن يقال: إنّ الطلب البعثي مطلقاً منشأ لانتزاع الوجوب، ويكونتمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبة، وأنّه معنى لا يلائمه الإذن في
- (1) وهو الدليل الخامس. م ح ـ ى.
(صفحه70)
الترك، بل ينافيه، لوضوح عدم إمكان اجتماع البعث والتحريك نحو العمل معالإذن في الترك المساوق لعدم البعث.
وعلى هذا فيجب أن يقال: إنّ الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكونمستعملة في الطلب البعثي، ولا تتضمّن البعث والتحريك، وإنّما تستعمل بداعيالإرشاد إلى وجود المصلحة الراجحة في الفعل، وببالي أنّ صاحب القوانينأيضاً اختار هذا المعنى، فقال: «إنّ الأوامر الندبيّة كلّها للإرشاد» وهو كلامجيّد(1)، إنتهى.
أقول: في كلامه رحمهالله تهافت، فإنّه عدل عن التمسّك بالتبادر ـ لعدم تماميّتهعنده ـ إلى هذا الدليل، مع أنّ كلامه هذا يدلّ على كون اللزوم والوجوبدخيلاً في ماهيّة البعث والتحريك الاعتباري الذي وضع الصيغة له، بحيث ليمكن للمولى الإذن في الترك، وهذا يقتضي تبادر الوجوب عنها، وبعبارةاُخرى: كيف يمكن الجمع بين إنكار وضع الصيغة للبعث والتحريك الوجوبيمن طرف، وبين تسلّم كونها موضوعة للبعث والتحريك من طرف آخر معالقول بكون اللزوم والوجوب دخيلاً في ذات البعث والتحريك بحيث لا يمكنالإذن في الترك عقيبه؟!
ويمكن المناقشة في أصل الدليل أيضاً بأنّ حكم العقل والعقلاء لابدّ له منملاك، ولا ملاك لحكمهما بكون صدور الأمر حجّة على العبد موجبلاستحقاقه العقوبة على المخالفة بعد إنكارهم الأدلّة الاُخرى(2) كما هو ظاهرعدولهم عنها إلى هذا الدليل الخامس.
والحاصل: أنّ الحقّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّه لا يبعد تبادر
- (2) وهي التبادر والانصراف والإطلاق والكاشفيّة العقلائيّة. م ح ـ ى.