(صفحه310)
الشمولي لفظاً دالاًّ على شمول الأفراد، بل نفهم منها بعد العلم بأنّه تعالى كانفي مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال، وأنّه تعالى ملتفت غير غافل،ومختار في أفعاله غير مجبر عليها، ومع ذلك كلّه لم يذكر شيئاً صالحاً للتقييد،نفهم من مجموع هذه الاُمور أنّه تعالى أراد إمضاء طبيعة البيع، فأين دلالتهعلى شمول الأفراد وعمومها؟!
نعم، تتّحد الطبيعة مع أفرادها وجوداً، فإنّ وجود الطبيعي هو عين وجودأفراده، وهذا الاتّحاد يكون بنحو ألجأ فريقاً ـ منهم المحقّق الخراساني رحمهالله ـ علىالقول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في الصلاة في الدار المغصوبة، ولكن مع ذلكلو سألناهم: «هل تدلّ الصلاة على الغصب أو بالعكس؟» لقالوا: لا، وهذأوضح دليل على أنّ مقام الاتّحاد في الوجود غير مقام الدلالة، فالبيع وإن اتّحدوجوداً مع أفراده إلاّ أنّه لا يدلّ عليها.
إن قلت: فكيف نتمسّك بإطلاق البيع لإلغاء اعتبار العربيّة في صيغته أوتقدّم الإيجاب على القبول ونحو ذ لك؟
قلت: هذا ليس لأجل دلالته، بل لعدم اشتماله على مثل هذه القيود، حيثإنّ تمام الموضوع هو «البيع» لا البيع الذي كان بالصيغة العربيّة أو تقدّم إيجابهعلى قبوله.
وعدم دلالة المطلق على البدليّة أوضح من عدم دلالته على الشمول،ضرورة أنّ المولى إذا قال: «أكرم عالماً» لا يستفاد من مقدّمات الحكمة أكثرمن وجوب إكرام طبيعة العالم، أمّا الوحدة التي هي عبارة اُخرى عن البدليّةفهي مدلولة لدالّ آخر، وهو تنوين النكرة الذي يدلّ على الوحدة، فهاهنا لندالاّن: «اسم الجنس» الذي يدلّ بعد تماميّة مقدّمات الحكمة على الطبيعة،و«التنوين» الذي يدلّ على الوحدة والبدليّة.
ج2
إن قلت: فالمطلق البدلي دائماً مقيّد بالوحدة على ما ذكرت، فلا يصحّتسميته مطلقاً حقيقةً.
قلت: كونه مطلقاً إنّما هو بحسب الأحوال والصفات، فإنّا إذا شككنا فيالمثال المتقدّم في اشتراط العدالة وعدمه نتمسّك بالإطلاق لإلغاء اعتبارهونستنتج أنّه لا فرق في العالم الذي يجب إكرامه بين أن يكون عادلاً أم لا.
والحاصل: أنّ الإطلاق قسم واحد في جميع الموارد، فلا مجال للقول بكونإطلاق الهيئة شموليّاً وإطلاق المادّة بدليّاً كما ذكر في صغرى دليل الشيخ لإثباتترجيح رجوع القيد إلى المادّة عند الدوران بينه وبين رجوعه إلى الهيئة،فنحن لانحتاج إلى منع الكبرى(1) كما فعل صاحب الكفاية.
الثاني: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة ويرتفع بهمورده، بخلاف العكس، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذيلايوجب بطلان الآخر أولى، أمّا الصغرى فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئةمحلّ حاجة وبيان لإطلاق المادّة، لأنّها لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة،فإنّ المادّة لاتتحقّق إلاّ عقيب الوجوب الذي لا يتحقّق إلاّ عقيب القيد، بخلافتقييد المادّة، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكمبالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه، وأمّا الكبرى فلأنّ التقييد وإن لميكن مجازاً إلاّ أنّه خلاف الأصل(2)، ولا فرق في الحقيقة ـ عند العقلاء الذينهم الأصل في أصالة الإطلاق ـ بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عمليشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به(3).
وفيه: أنّ التقييد بالمتّصل كما إذا قال: «إن جاءك زيد فأكرمه» ليس مخالف
- (1) أي كبرى دليل الشيخ رحمهالله ، وهي ترجيح تقييد الإطلاق البدلي على تقييد الإطلاق الشمولي. م ح ـ ى.
- (2) أي أصالة الإطلاق. منه مدّ ظلّه.
- (3) مطارح الأنظار 1: 253، وكفاية الاُصول: 133.
(صفحه312)
لأصالة الإطلاق، ضرورة أنّه لا إطلاق حتّى يكون التقييد مخالفاً له، وذلكلأنّ الظهور المنعقد للمطلق مترتّب على تحقّق مقدّمات الحكمة، ومنها عدمإقامة قرينة على التقييد حين التكلّم، فمع إقامتها لم تتوفّر مقدّمات الحكمة فلمينعقد للكلام ظهور في الإطلاق كي يكون التقييد خلاف الأصل، ألاترى أنّهلا يمكن الالتزام بكون تقييد الرقبة بقيد الإيمان في «أعتق رقبة مؤمنة» أمرمخالفاً للأصل.
لا يقال: ما ذكرت مسلّم في «أعتق رقبة مؤمنة» لوضوح رجوع القيد إلىالمادّة، بخلاف المقام الذي يدور أمر القيد فيه بين رجوعه إلى المادّة وإلىالهيئة،فإن كان راجعاً إلى المادّة فلا يوجب خلاف الأصل، لما ذكرت من عدم تماميّةمقدّمات الحكمة كي ينعقد ظهور للكلام في الإطلاق، وأمّا لو كان راجعاً إلىالهيئة فحينئذٍ وإن لم يكن تقييد الهيئة أيضاً خلاف الأصل لنفس ما ذكر، إلأنّ استلزامه لبطلان محلّ الإطلاق في المادّة خلاف الأصل، لأنّ ما يوجب عدمتماميّة مقدّمات الحكمة إنّما هو التقييد حيث إنّ عدمه أحد المقدّمات، وأمّالعمل المشارك للتقييد في الأثر فلا.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ رجوع القيد إلى الهيئة يكون بالمطابقة قرينة على تقييدالهيئة، وبالملازمة على تقييد المادّة، ومن مقدّمات الحكمة عدم إقامة المتكلّمقرينة على التقييد، ولا فرق في ذلك بين القرينة المباشرة وغير المباشرة،فرجوعه إلى الهيئة كما يوجب عدم انعقاد ظهور لها في الإطلاق كذلك يوجبعدم انعقاد ظهور للمادّة فيه أيضاً.
هذا كلّه فيما إذا كان التقييد بمتّصل كما هو ظاهر كلام الشيخ رحمهالله .
وأمّا إذا كان بمنفصل فالحقّ ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله من ترجيح رجوعه إلىالمادّة، حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة كم
ج2
قال صاحب الكفاية(1).
وأجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عمّا استدلّ به الشيخ رحمهالله ثانياً بقوله:
إنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل، إلاّ أنّ العمل الذي يوجب عدم جريانمقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماتها لا يكون على خلاف الأصل أصلاً، إذمعه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييدالذي يكون على خلاف الأصل.
وبالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلاّ كونه خلاف الظهورالمنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة، ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد لههناك ظهور كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاقالمطلق مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً(2).
إنتهى محلّ الحاجة من كلامه رحمهالله .
ولا يخفى أنّ قوله في ذيل كلامه: «نعم، إذا كان التقييد بمنفصل(3) إلخ» قرينةعلى أنّ الصدر مربوط بالقيد المتّصل، وعلى هذا فالتفكيك بين التقييد والعملالذي يشترك معه في الأثر بقبول كون الأوّل خلاف الأصل وإنكار ذلك فيالثاني غير صحيح، لما عرفت من أنّ القيد إذا كان متّصلاً فلا يكون التقييد ولالعمل الذي يشترك معه في الأثر خلاف الأصل أصلاً، لانتفاء مقدّمات الحكمةفي مورد كليهما، بل انتفائها في التقييد أقوى منه في العمل المشارك معه، حيثإنّ الإتيان بالقيد قرينة مباشرة على التقييد في مورد التقييد وغير مباشرة فيمورد العمل المشارك معه كما تقدّم آنفاً، فعدم تحقّق خلاف الأصل في التقييدأقوى منه في العمل المشارك معه.
(صفحه314)
وبالجملة: لا يصحّ التفكيك بين التقييد وبين العمل المشارك معه في الأثرأصلاً، سواء أراد التقييد بمتّصل أو بمنفصل(1)، ضرورة عدم كون واحد منهمخلاف الأصل في المتّصل وكون كليهما خلاف الأصل في المنفصل كما عرفت،ولعلّه للتنبيه على هذا الإشكال الوارد على صدر كلامه أمر بالتأمّل في الذيل،لا لما ذكره المشكيني رحمهالله ولا لما نقله عن اُستاذه المحقّق القوچاني قدسسره في حاشيةالكفاية(2).
هذا تمام الكلام في الواجب المنجّز والمعلّق.
الواجب النفسي والغيري
ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري:في الواجب النفسي والغيري
كلام صاحب الكفاية في تعريفهم
اعلم أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله نقل تعريفاً لهما ثمّ ناقش فيه ثمّ اختار تعريفآخر، فلابدّ لنا من ملاحظة مجموع ما أفاده لكي يتبيّن الحقّ، فقال في بدايةكلامه:
«ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري، وحيث كان طلب شيء وإيجابهلا يكاد يكون بلا داعٍ فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكادالتوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري، وإلاّ فهو نفسي، سواء كانالداعي محبوبيّة الواجب بنفسه، كالمعرفة(3) باللّه، أو محبوبيّته بما له من فائدة
- (1) هذا مع قطع النظر عن ذيل كلامه، أعني قوله: «نعم، إذا كان التقييد بمنفصل إلخ» وإلاّ فقد عرفت أنّه قرينةعلى إرادته من ا لصدر التقييد بالمتّصل. منه مدّ ظلّه.
- (2) راجع كفاية الاُصول المحشّى 1: 535؛ ليتبيّن لك ما أفاده المحقّقان المشكيني والقوچاني في وجه الأمربالتأمّل. م ح ـ ى.
- (3) فإنّها هي الغاية القصوى، كما يؤيّده تفسير العبادة في قوله تعالى ـ من سورة الذاريات، الآية 56 ـ : «وَمَخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» بالمعرفة في بعض الأخبار. منه مدّ ظلّه.