ج2
بكونها مأموراً بها بأمرها المتعلّق بها، لاستحالة التقييد فرضاً، بل ما لا ينطبقإلاّ على الأخير، لا بنحو الاشتراط، بل له ضيق ذاتي لا يبعث إلاّ نحو المأموربها، كما في العلل التكوينيّة، وبعبارة أوضح: إنّ الأوامر تحرّك المكلّف نحوالطبيعة التي لا تنطبق لبّاً إلاّ على المقيّدة بتحريكها، فإذا أتى المكلّف بها منغير دعوة الأمر لا يكون آتياً بالمأمور به، لأنّه لا ينطبق إلاّ على المقيّد بدعوةالأمر، فمقتضى الأصل اللفظي هو كون الأوامر تعبّديّة قربيّة(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الحائري رحمهالله في المقام على ما نقله سيّدنا الاُستاذالإمام قدسسره .
ولا يخفى أنّه لو تمّ لكان ردّاً على المحقّق الخراساني رحمهالله حيث عرفت أنّهذهب إلى عدم أصل لفظي في المقام يتمسّك به، بل لابدّ من التمسّك بالإطلاقالمقامي لو كان، وإلاّ فبالاُصول العمليّة، لكنّ المحقّق الحائري ذهب إلى وجودأصل لفظي يقتضي تعبّديّة الأوامر وقربيّتها.
نقد كلامه «أعلى اللّه مقامه»
وكيف كان، ففي كلامه نظر، فإنّ المقدّمات الثلاث على فرض تماميّتها لتقتضي كون الأوامر تعبّديّة عند الشكّ، فإنّ التضيّق الذاتي إنّما هو فيالواجبات التعبّديّة فقط، لا مطلقاً، والفرض أنّ التعبّديّة مشكوكة لنا، فكيفيمكن القول بكون مقتضى الأصل اللفظي تعبّديّة الأوامر؟!
على أنّ في المقدّمات أيضاً مناقشات أوردها سيّدنا الاُستاذ الأعظمالإمام قدسسره ونحن نذكر واحدة منها:
وهي أنّ قياس التشريع بالتكوين قياس مع الفارق من جهات عديدة:
- (1) تهذيب الاُصول 1: 225.
(صفحه122)
الاُولى: أنّ المعلول في العلل التكوينيّة خصوصاً في الفاعل الإلهي الذي هوالعلّة الحقيقيّة، لا الفاعل المادّي الذي هو في سلك المعدّات والعلل الإعداديّة،إنّما هو ربط محض بعلّته، لا شيئيّة له قبل تأثير علّته، ففعليّته ظلّ فعليّة علّته،فهو ربط محض بها، لا أنّه شيء له الربط بها، وهذا بخلاف التشريع، فإنّالأسباب الشرعيّة ليست موجدة لمسبّباتها، والمسبّبات ليست أظلالاً وأشعّةًلها، كما في التكوينيّات، بل الأسباب الشرعيّة ليست كالمعدّات التكوينيّةأيضاً، إذ ليس ارتباط الضمان بالإتلاف، أو وجوب الصلاة بدلوك الشمسمثلاً كارتباط الإحراق بالنار كما هو واضح، بل لو ورد في الشريعة أنّالإتلاف سبب للضمان، أو دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة لكان معناه أنّالشارع يحكم عقيبهما بالضمان ووجوب الصلاة، وليس معناه العلّيّة ولالمعدّيّة، وإن عبّر عنهما في لسان الدليل بالسبب فرضاً.
الثانية: أنّ الأمر لا يخلو إمّا أن يكون بمعنى الإرادة أو بمعنى البعثوالتحريك الاعتباري، ولا يعقل كونه علّةً للصلاة مثلاً بأيّ معنى من المعنييناُخذ، فإنّ الإرادة من الاُمور ذات الإضافة، فهي متقوّمة بالمريد والمراد،فرتبتها متأخّرة عن رتبة المراد، فكيف يمكن أن تكون علّةً له مع أنّ العلّةمتقدّمة رتبةً على معلولها؟! والبعث والتحريك الاعتباري أيضاً كذلك، فإنّهأمر إضافي متقوّم بالباعث والمبعوث إليه، فرتبته متأخّرة عن رتبة المبعوثإليه، فكيف يمكن أن يكون علّة له؟!
الثالثة: ما اختاره من تكثّر المعلول بتكثّر علّته وعدم تداخل الأسباب فيالشرعيّات كالتكوينيّات، فإنّ اقتضاء كلّ علّة تكوينيّة معلولاً مستقلاًّ إنّما هولقضيّة إيجاب كلّ علّة مؤثّرة بوجودها وجوداً آخر مسانخاً لوجودها يكونمعلولاً ووجوداً ظلّيّاً لها، وأمّا الإرادة فلا معنى لتعلّقها بشيء واحد زمان
ج2
ومكاناً مرّتين، بل لا يقع الشيء الواحد تحت دائرة الإرادة إلاّ مرّة واحدة،فإنّها كما عرفت أمر إضافي متقوّم بالمراد، ولا يعقل أن يتقوّم إرادتان بمرادواحد من جميع الجهات، وكذا لا يعقل أن يكون الشيء الواحد تحت أمرتأسيسي متعدّد(1).
وبالجملة: تكثّر المعلول التكويني تابع لتكثّر علّته، والأمر في الأمر علىفرض كونه سبباً لمتعلّقه بالعكس، فإنّ تكثّره تابع لتكثّر متعلّقه، سواء كانبمعنى الإرادة، أو بمعنى البعث والتحريك الاعتباري.
الرابعة: ما اختاره من مسألة الفوريّة في الشرعيّات، كما أنّ المعلول لينفكّ عن علّته في التكوينيّات، فإنّ عدم انفكاك المعلول عن علّته إنّما هولكون وجود العلّة التامّة كافياً في تحقّقه، فلا معنى للانفكاك، وأمّا الإرادةفيمكن أن تتعلّق بأمر استقبالي، كوجوب الحجّ بعد الاستطاعة وقبل الموسمالمسمّى بالواجب المعلّق، فإنّ الوجوب بعدها وقبله حالي، ولكنّ الواجباستقبالي، فإثبات الفوريّة أيضاً مخدوش من هذه الجهة.
هذا حاصل ما أجاب به الإمام قدسسره عن المحقّق الحائري رحمهالله بتوضيح منّا.
فلا يمكن المناقشة فيما أفاده صاحب الكفاية بما ذكره «أعلى اللّه مقامه».
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
ولكن يرد عليه إشكالات اُخر، فإنّه بنى عدم تحقّق الأصل اللفظي في المقامعلى مقدّمتين: اُولاهما: استحالة أخذ قصد القربة ـ بمعنى داعي الأمر ـ فيمتعلّق الأمر، ثانيتهما: كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.
وبعدما عرفت من إمكان أخذ قصد القربة ـ بأيّ معنى اُخذ ـ في المتعلّق فل
- (1) نعم، لا بأس بصدور أوامر متعدّدة متعلّقة بشيء واحد إذا كان غير الأوّل تأكيديّاً. منه مدّ ظلّه.
(صفحه124)
مجال للمقدّمة الاُولى. هذا أوّلاً.
وثانياً: كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة أمر مختلففيه، فإنّ المشهور ذهبوا إلى أنّه تقابل التضادّ، وقالوا: الإطلاق بمعنى إلقاء القيدورفضه، لا بمعنى عدمه، فهو أمر وجودي، والتقييد أمر وجودي آخر، وليجتمعان معاً، وهذا ينطبق على التضادّ، لا على العدم والملكة، وعلى هذاستحالة التقييد لا تقتضي استحالة الإطلاق، لأنّ امتناع أحد الضدّين ليوجب امتناع الآخر، ألا ترى أنّ أحد الأجسام لو لم يقبل السواد لجهة منالجهات فهذا لا يستلزم أن لا يقبل البياض أيضاً.
وذهب بعضهم إلى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل تقابل السلبوالإيجاب، وقالوا: الإطلاق عبارة عن مطلق عدم التقييد، لا عن عدم التقييدفي مورد قابل له حتّى يكون من قبيل عدم الملكة، وعليه أيضاً لا يقتضياستحالة التقييد استحالة الإطلاق، لأنّ عدم إمكان الإيجاب لا يوجب عدمإمكان السلب في تقابل الإيجاب والسلب.
فالمقدّمة الثانية أيضاً أمر مبنائي لا اتّفاقي.
سلّمنا أنّ المقابلة بين الإطلاق والتقييد مقابلة العدم والملكة، وافترضنا أنّالتقييد في ما نحن فيه ممتنع، فهل امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق؟
قال المحقّق الخراساني والنائيني رحمهماالله : نعم، بدعوى أنّ لازم كون التقابل بينالإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة اعتبار كون المورد قابلاً للتقييد، فما لميكن قابلاً له لم يكن قابلاً للإطلاق أيضاً(1).
كلام السيّد الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 155.
ج2
وذهب بعض الأعلام«مدّ ظلّه» إلى عدم الملازمة بين استحالة التقييد واستحالةالإطلاق ولو كان المقابلة بينهما من قبيل مقابلة العدم والملكة، بل قال: أحدالمتقابلين كذلك إذا كان مستحيلاً كان الآخر ضروريّاً، وناقش في كلامالمحقّقين: الخراساني والنائيني نقضاً وحلاًّ:
أمّا نقضاً: فبأنّ الإنسان جاهل بحقيقة ذات الواجب تعالى، ولا يتمكّن منالإحاطة بكنه ذاته سبحانه حتّى نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وذلك لاستحالة إحاطة الممكنبالواجب، فإذا كان علم الإنسان بذاته تعالى مستحيلاً لكان جهله بهضروريّاً، مع أنّ التقابل بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة، فلو كانتاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروضالمقام، مع أنّه ضروري وجداناً، فضلاً عن أن يكون مستحيلاً، وبأنّ الإنسانيستحيل عادةً أن يكون قادراً على الطيران في السماء، مع أنّ عجزه عنهضروري عادة، وليس بمستحيل، فلو كانت استحالة أحد المتقابلين بتقابلالعدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة عادةً في مفروضالمثال تستلزم استحالة العجز، مع أنّ الأمر ليس كذلك.
وأمّا حلاًّ: فلأنّ قابليّة المحلّ المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكونشخصيّة في جزئيّات مواردها، بل يجوز أن تكون صنفيّةً أو نوعيّة أو جنسيّةً،ومن هنا ذكر الفلاسفة أنّ القابليّة المعتبرة بين الأعدام والملكات ليستالقابليّة الشخصيّة بخصوصها في كلّ مورد، بل الأعمّ منها ومن القابليّة الصنفيّةوالنوعيّة والجنسيّة حسب اختلاف الموارد والمقامات(1)، فلا يعتبر في صدقالعدم المقابل للملكة على مورد أن يكون ذلك المورد بخصوصه قابلاً للاتّصاف
- (1) نهاية الحكمة: 192، مبحث تقابل العدم والملكة، من مباحث المرحلة السابعة، والحكمة المتعالية فيالأسفار العقليّة الأربعة 2: 116، مبحث تقابل العدم والملكة من مباحث الفصل السادس من فصولالمرحلة الخامسة.