ج2
1ـ أنّ أصالة الطهارة قاعدة معذّريّة، فهي تقتضي الإجزاء ما دام المكلّفشاكّاً، وبعد ارتفاع شكّه لا معنى للإجزاء، لارتفاع ما كان عذراً له(1).
وفيه: أنّه إن أراد بكونها قاعدة اعتذاريّة عدم جريانها بعد تبدّل الشكّ إلىالعلم، فهو صحيح، ولكنّه لا يجديه، وإن أراد به أنّ قاعدة الطهارة إنّما تدلّعلى كون من صلّى في الثوب النجس مثلاً معذوراً لا يعاقب عليها، وأمّا أنّه ليجب عليه الإعادة أو القضاء بعد كشف الخلاف فلا دلالة لها عليه، فهو فاسد،ضرورة عدم دلالة قوله عليهالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» على العذرأصلاً، بل مفاده جعل طهارة ظاهريّة عند الشكّ في الواقع فقط.
بل إطلاق كشف الخلاف في المقام لا يصحّ إلاّ مسامحةً، ضرورة أنّا لم نعتقدبشيء بدليل قطعي أو ظنّي حين جريان الأصل، بل كان الواقع مشكوكاً لنا،وجريان أصالة الطهارة لم يبدّله إلى العلم، بل عيّن لنا وظيفة ظاهريّة في ظرفالشكّ.
2ـ أنّ حكومة قاعدة الطهارة على مثل «صلِّ مع الطهارة» تستلزم أنيكون لها مدلولان طوليّان، ضرورة أنّها لابدّ من أن تجعل لنا طهارة ظاهريّةفي مقابل الطهارة الواقعيّة، ثمّ توسّع في «صلِّ مع الطهارة» بأنّه اُريد به معنىعامّ يشمل الطهارة الظاهريّة أيضاً(2).
وفيه: أنّ لها مدلولاً واحداً، وهو جعل الحكم الظاهري فقط، وأمّا كونهحاكمةً على أدلّة اشتراط طهارة الثوب في الصلاة فهو حكم العقلاء لا مدلولالقاعدة، فإنّهم إذا لاحظوها وقايسوها مع دليل اشتراط طهارة الثوب فيالصلاة ولم يروا بينهما معارضةً حكموا لا محالة بكونها حاكمةً عليه موسّعةً
- (1) أجود التقريرات 1: 289: ورابعاً... وأمّا الاُصول فليس المجعول فيها إلاّ التعبّد بالجري العملي وترتيبآثار إحراز الواقع في ظرف الشكّ كما يظهر ذلك في محلّه إن شاء اللّه تعالى.
- (2) فوائد الاُصول 1 و 2: 249، وأجود التقريرات 1: 287.
(صفحه212)
لدائرته، حذراً من لغويّتها وعدم ترتّب أثر عليها.
3ـ أنّ الحكومة التي نقول بها في الاُصول لا توجب التوسعة والتضييق،وتوضيح ذلك أنّ الحكومة على قسمين:
القسم الأوّل: أن يكون الحاكم والمحكوم كلاهما في رتبة واحدة وبصددبيان الحكم الواقعي، ولا يكون موضوع الدليل الحاكم الشكّ في حكم الدليلالمحكوم، كحكومة قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ»(1) على قوله: «إذا شككت بينالثلاث والأربع فابن على الأربع»(2) فيصير معنى الدليل المحكوم بعد ملاحظةالدليل الحاكم «إذا شككت بين الثلاث والأربع ولم تكن كثير الشكّ فابن علىالأربع»، وكحكومة قول المولى: «النحاة من العلماء» على قوله: «أكرم كلّعالم» لو فرضنا عدم شموله النحويّين لغةً، وهذه تسمّى الحكومة الواقعيّة.
القسم الثاني: أن يكون الدليل الحاكم متضمّناً للحكم الظاهري في مقابلالدليل المحكوم الذي يتضمّن الحكم الواقعي، ويكون موضوعه الشكّ في حكمالدليل المحكوم، كحكومة قاعدة الطهارة على دليل نجاسة البول، وهذه ليستحكومة واقعيّة موجبةً لتضييق دائرة المحكوم أو توسعته، لأنّ قاعدة الطهارةمتأخّرة عن دليل نجاسة البول برتبتين، لتأخّرها عن موضوعها، وهو الشكّفي النجاسة، وتأخّر الشكّ فيها عن دليلها، فليسا في رتبة واحدة حتّى تكونحاكمة عليه حكومة واقعيّةً موجبةً لتضييق دائرته، وإنّما هي حكومة ظاهريّةيترتّب عليه الأثر ما دام شاكّاً.
وبالجملة: الأحكام الظاهريّة ليست موسّعة للأحكام الواقعيّة، ولا مضيّقة
- (1) ورد بهذا المضمون أخبار متعدّدة في وسائل الشيعة 8 : 227، كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الخللالواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
- (2) ورد بهذا المضمون أخبار متعدّدة في وسائل الشيعة 8 : 216، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخللالواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
ج2
لها، ولا توجب تصرّفاً في الواقع أبداً(1).
وفيه أوّلاً: أنّ الحكم ينقسم إلى الظاهري والواقعي، وأمّا انقسام الحكومةإليهما فما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين.
وثانياً: أنّه لا أثر لهذه الحكومة لو لم يترتّب عليها تضييق الدليل المحكوم أوتوسعته بواسطة الدليل الحاكم.
وثالثاً: أنّا لا ندّعي حكومة قاعدة الطهارة على أدلّة نجاسة الأشياء، بلعلى دليل الشرط في الصلاة، مثل «صلِّ مع الطهارة»، وهما في رتبة واحدة(2).
نعم، جريان القاعدة في موارد أدلّة النجاسات عند الشكّ يوجب اجتماعالحكمين الظاهري والواقعي، لا حكومتها عليها.
والحاصل: أنّ القائل بالإجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة حاكمة على مثلأدلّة النجاسات وأنّها في زمان الشكّ طاهرة، بل يقول: إنّها محفوظة فيواقعيّتها، وأنّ ملاقيها نجس حتّى في زمان الشكّ، لكن يدّعي حكومتها علىمثل الدليل الذي دلّ على طهارة ثوب المصلّي وأنّه لابدّ أن يكون طاهراً،وخلاصة حكومتها أنّ ما هو نجس واقعاً يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه فيظرف الشكّ، ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها، لكن بلسان تحقّقالطهارة، ولازمه تحقّق مصداق المأمور به، لأجل حكومتها على أدلّة الشرائطوالموانع.
4ـ أنّه لو كانت حكومة الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة واقعيّةً موسّعةًومضيّقةً فلابدّ من ترتيب جميع آثار الواقع عليها، لا خصوص الشرطيّة فيالصلاة، فلابدّ من أن لا يحكم بنجاسة الملاقي لما هو محكوم بالطهارة ظاهراً،
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 250، وأجود التقريرات 1: 288.
- (2) لعدم أخذ الشكّ في حكم الدليل المحكوم هاهنا في موضوع الدليل الحاكم كما هو واضح، فليس بينهمتقدّم وتأخّر أصلاً. م ح ـ ى.
(صفحه214)
وإن انكشف الخلاف وأنّ الملاقى كان نجساً، لأنّه حين الملاقاة كان طاهربمقتضى التوسعة التي جاءت من قبل قاعدة الطهارة، وبعد انكشاف الخلاف لمتحدث ملاقاة اُخرى توجب نجاسة الملاقي، فينبغي القول بطهارته، وهو كمترى(1).
وفيه أوّلاً: أنّ ملاك الحكومة غير موجود هنا، فإنّ ملاكها أن يكون بينالحاكم والمحكوم مناسبة وارتباط، ولا مناسبة بين قاعدة الطهارة والدليلالدالّ على تنجّس ملاقي النجاسة، فإنّ الحكمين المستفادين منهما متضادّان،فالحكم بطهارة الملاقي حين الشكّ في نجاسة الملاقى باستناد جريان أصالةالطهارة فيه لا يوجب حكومتها على «كلّما يلاقي النجاسة فهو نجس»، بل هيتدلّ على طهارة الملاقي الظاهريّة، وهو على نجاسته الواقعيّة، ولا محذور فيالجمع بينهما كما أشرنا إليه(2) كي نلتجأ إلى رفع اليد عن ظاهر هذا الدليلبحكومة أصالة الطهارة عليه.
وبالجملة: قاعدة الطهارة حاكمة على ما يسانخها من الأدلّة، وهو ما يدلّعلى الطهارة الواقعيّة، مثل «صلِّ مع الطهارة» و«يشترط في المأكولوالمشروب أن يكون طاهراً»(3)، لا ما لا يسانخها، كأدلّة النجاسات.
وثانياً: سلّمنا وجود ملاك الحكومة بالنسبة إلى أدلّة النجاسات أيضاً،ولكنّ الإجماع أو ضرورة الفقه يمنع من حكومتها عليها، حيث إنّه لم يتفوّهأحد بطهارة الملاقي بعد انكشاف نجاسة الملاقى حين الملاقاة، وعدم تحقّق
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 251، وأجود التقريرات 1: 289.
- (2) تقدّم الإشارة إلى إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في ص216. م ح ـ ى.
- (3) لكن لا مجال لبحث الإجزاء في قاعدة الطهارة بالنسبة إلى مثل «يشترط في المأكول والمشروب أنيكون طاهراً» فلا يقال: إذا شربنا مايعاً شكّ في طهارته ونجاسته بمقتضى أصالة الطهارة ثمّ انكشف أنّهكان نجساً فهل يجزي أم لا، وهذا واضح لا يخفى. منه مدّ ظلّه.
ج2
الحكومة في مورد لأجل مانع خاصّ لا يوجب عدم تحقّقها في مورد آخرفاقد للمانع، بدعوى أنّها لو تحقّقت لتحقّقت في كليهما لاشتراكهما في الملاك، فإنّعدم تأثير الملاك في مورد لمانع لا يوجب عدم تأثيره فيما لا مانع فيه.
هذا تمام الكلام في أصالة الطهارة، وتبيّن أنّها مقتضية للإجزاء.
فيما يقتضيه أصالة الحلّيّة في المقام
ويجري جميع ما سبق فيها في أصالة الحلّيّة أيضاً(1)، ضرورة أنّها أيضحاكمة على مثل دليل مانعيّة أجزاء ما لا يؤكل لحمه للصلاة، فإذا شككنا فيكون ثوب من أجزاء ما يحلّ أكله أو يحرم، فأجرينا فيه أصالة الحلّيّة وصلّينفيهثمّانكشف كونه منأجزاء حيوانمحرّمالأكل كانتالصلاة صحيحةبالتقريبالمتقدّم في قاعدة الطهارة وحكومتها على دليل الشرطيّة طابق النعل بالنعل.
نعم، نتيجة الحكومة في قاعدة الطهارة كانت توسعة دائرة دليل الشرطيّة،وفي أصالة الحلّيّة تضييق دائرة دليل المانعيّة كما هو واضح(2).
والحاصل: أنّ هذه القاعدة أيضاً مقتضية للإجزاء مثلها.
حول الإجزاء في موارد البراءة العقليّة
بخلاف أصالة البراءة العقليّة، فإنّ مدركها إنّما هو قبح العقاب بلا بيان، فلو
- (1) فاعلم أنّ مدركها على المشهور قوله عليهالسلام ـ في وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبوابما يكتسب به، الحديث 4 ـ «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه»، لكن ذهب المحقّقالخراساني رحمهالله ـ في الكفاية: 452 ـ إلى أنّ المغيّى في هذه الرواية يدلّ على الحكم الواقعي والغاية علىالاستصحاب، بخلاف المشهور، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الغاية قيد للموضوع، فيكون معنى الرواية «كلّ شيءشكّ في حلّيّته وحرمته فهو لك حلال» فهي بصدد جعل حلّيّة ظاهريّة فيما شكّ في حكمه الواقعي، ولارتباط لها بالاستصحاب ولا بالحكم الواقعي. منه مدّ ظلّه.
- (2) وهذا هو المناسب لغرض جعل هاتين القاعدتين ـ وهو التسهيل على الاُمّة ـ فإنّ التسهيل يقتضيتوسعة دائرة دليل الشرطيّة وتضييق دائرة دليل المانعيّة كما لا يخفى. منه مدّ ظلّه.