(صفحه434)
بعدُ بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها، مع فعليّة الأمر بغيرهأيضاً، لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً.
لايقال: نعم، ولكنّه بسوء اختيار المكلّف، حيث يعصي فيما بعد بالاختيار،فلولاه لما كان متوجّهاً إليه إلاّ الطلب بالأهمّ، ولا برهان على امتناع الاجتماعإذا كان بسوء الاختيار.
فإنّه يقال: استحالة طلب الضدّين ليست إلاّ لأجل استحالة طلبالمحال، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحال دونحال، وإلاّ يصحّ فيما علّق على أمر اختياري في عرض واحد(1)، بلا حاجة فيتصحيحه إلى الترتّب، مع أنّه محال بلا ريب وإشكال(2)، إنتهى موضع الحاجةمن كلامه.
بيان ما يقتضيه التحقيق في مسألة الترتّب
أقول: إن أراد القائل بالترتّب أنّ عصيان الأمر بالأهمّ أو العزم عليه شرطشرعي لوجوب المهمّ، ففيه أوّلاً: أنّه لم يرد في الكتاب والسنّة، مع أنّ الشرطالشرعي لابدّ من أن يبيّن فيهما.
وثانياً: أنّه لا يمكن بحسب مقام الثبوت أيضاً أن يكون شرطاً شرعيّاً.
توضيح ذلك يحتاج إلى بيان اُمور:
الأوّل: أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع لا بالأفراد، كما سيجيء تحقيقه.
ما هو معنى المطلق؟
- (1) كما إذا أمره بتبييض الجدار وتسويده معاً في آن واحد إن أكل الغذاء الفلاني. م ح ـ ى.
ج2
الثاني: أنّ الإطلاق ليس بمعنى الشمول والسريان كما قال المحقّقالخراساني رحمهالله ، وإلاّ فما كان بينه وبين العموم فرق.
إن قلت: الفرق بينهما أنّ الشمول في العموم بالدلالة اللفظيّة الوضعيّة، وفيالإطلاق بحكم العقل بإرادة الشمول والسريان بمعونة مقدّمات الحكمة.
قلت: غاية هذا إنّما هو اختلاف العامّ والمطلق في طريق الوصول إلى المعنىلا في نفس المعنى كما هو واضح.
فالفرق الأساسي بينهما أنّ العامّ يدلّ على الشمول والسريان، والمطلق علىالطبيعة فقط من دون أن يكون ناظراً إلى الأفراد.
بل لا يكاد يمكن أن يكون دالاًّ على السريان في الأفراد، ضرورة أنّ«البيع» مثلاً في قوله تعالى: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»(1) اسم جنس معرّف بلامالجنس، وهو لم يوضع إلاّ لنفس الطبيعة والماهيّة، وأمّا الأفراد التي هيالوجودات المشخّصة بالتشخّصات الفرديّة فهي خارجة عمّا وضع له اسمالجنس، فلايمكن أن يكون دالاًّ عليها، لا بالمطابقة ولا بالتضمّن، وكذلكالالتزام، لعدم كون الوجودات لازمة للطبيعة والماهيّة، ولذا قيل: الماهيّة منحيث هي هي ليست إلاّ هي، لا موجودة ولا معدومة ولا أيّ شيء آخر.
والحاصل: أنّ مدلول المطلق ليس إلاّ نفس الطبيعة والماهيّة، فإذا تمّتمقدّمات الحكمة من كون المتكلّم عاقلاً مختاراً حكيماً في مقام البيان ولم ينصبقرينة على التقييد ولم يكن القدر المتيقّن في مقام التخاطب يحكم العقل بأنّالطبيعة تمام موضوع حكمه من دون دخل أمر آخر فيه، فيتمسّك به لنفياعتبار ما شكّ في اعتباره من القيود.
بيان مورد التزاحم
(صفحه436)
الثالث: أنّ التزاحم ليس بين الطبيعتين، بل بين بعض أفراد كلّ منهما معبعض أفراد الآخر في بعض الحالات، ألا ترى أنّه لا تزاحم بين الصلاة فيوقتها وبين الإزالة قبل وقت الصلاة، ولا بينها وبين إزالة النجاسة الحادثة بعدأدائها، ولا تزاحم أيضاً لو اشتغل بالصلاة حال كونه غير ملتفت إلى تلوّثالمسجد، نعم، المزاحمة متحقّقة بين الصلاة المقارنة لتلوّث المسجد حال كونهملتفتاً إليه، ولو كانت المزاحمة بين الطبيعتين لتحقّقت في الفروض الثلاثةالسابقة أيضاً.
إذا عرفت هذه الاُمور تبيّن لك أنّه لا تزاحم بين متعلّقي التكليفين،لما ذكر من أنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع من غير أن تكون ساريةً فيأفرادها ومرآةً لها، فما هو مورد التزاحم وهو الأفراد ليس متعلّقاً للتكليف،لا مستقيماً ولا من جهة التمسّك بالإطلاق، وما هو متعلّقه وهو الطبائع فلتزاحم بينها كي يضطرّ الآمر إلى تقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأمر بالأهمّ أوالعزم عليه.
والحاصل: أنّ القائل بالترتّب إن أراد اشتراط الأمر بالمهمّ بأحدهما شرعفلا دليل عليه من الكتاب والسنّة إثباتاً ولا هو معقول ثبوتاً.
وإن أراد الاشتراط عقلاً ـ كما هو ظاهر كلامه ـ بأن يقال: حيث إنّ كلاًّ منالأهمّ والمهمّ ذو مصلحة ملزمة، ولكنّ المكلّف لا يتمكّن من الجمع بينهمفالعقل يحكم بأنّ الأمر بالأهمّ مطلق، وبالمهمّ مشروط بعصيان الأمر بالأهمّأو البناء عليه، فبطلانه يتّضح بتقديم اُمور:
هل للأحكام أربع مراحل؟
الأوّل: ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ لكلّ حكم مراحل أربعة: 1
ج2
الاقتضاء، وهو كون العمل ذا مصلحة أو مفسدة مقتضية للحكم، 2ـ الإنشاء،وهو جعل الحكم وإنشائه من قبل المولى، 3ـ الفعليّة، وهي لزوم إجرائه منقبل العبد، وهو مشروط بعلمه بالحكم وقدرته على امتثاله، 4ـ التنجّز، وهواستحقاق العقاب على مخالفته.
وقد أنكر المشهور كون الاقتضاء والتنجّز من مراحل الحكم، لأنّ اشتمالالعمل على المصلحة أو المفسدة ليس مرتبة من مراتب الحكم، بل أمر مقتضٍللحكم متقدّم عليه، وكذلك استحقاق العقوبة على مخالفته، لكونه متأخّراً عنالحكم مترتّباً عليه عقلاً، لا مرحلة من مراحله شرعاً، ولكنّهم تسلّموالمرحلتين الوسطيين، وهما الإنشاء والفعليّة.
ما أفاده الإمام الخميني رحمهالله حول مراحل الحكم
ولكن سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله أنكر كونه ذا مرحلتين أيضاً.
وحاصل كلامه: أنّهم إن أرادوا بالحكم ما ورد في الكتاب والسنّة منالخطابات المشتملة على الأحكام وفعل المعصوم وتقريره فهي مشتركة بينالعالم والجاهل والقادر والعاجز(1)، ولا دليل على كونها مختصّة بالعالم القادر.نعم، يستفاد اختصاص لزوم الجهر والإخفات والقصر والإتمام بالعالم، فمنجهر حال كونه جاهلاً بلزوم الإخفات أو بالعكس، أو قصّر حال كونه
- (1) إن قلت: قوله تعالى ـ في سورة البقرة، الآية 286 ـ : «لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا» ظاهر في عدمتوجّه التكليف إلاّ إلى القادر، فإنّ الوسع في الآية الشريفة وإن كان عبارة عن القدرة العرفيّة لا العقليّة التيهي محلّ النزاع، إلاّ أنّ الآية إذا دلّت على عدم توجّه التكليف إلى العاجز عرفاً دلّت على عدم توجّهه إلىالعاجز عقلاً أيضاً، ضرورة أنّ كلّ إنسان يحكم العقل بعدم تمكّنه من عمل يحكم العرف أيضاً بذلك،دون العكس.
قلت: ما استدلّ به الاُستاذ ««مدّ ظلّه»» لنفي تقييد الأحكام بالقدرة من البرهانين الآتيين ـ في الصفحة458 ـ يوجب حمل هذه الآية على نفي الأثر المترتّب على التكليف، وهو عقاب العاجز على مخالفته،فتكون حينئذٍ إرشاداً إلى حكم العقل. م ح ـ ى.
(صفحه438)
جاهلاً بلزوم الإتمام أو بالعكس، صحّت صلاته، وأمّا في سائر الأحكام فلدليل على اختصاصها بالعالم أو القادر، فما هو المعروف من كون العلم والقدرةمن الشرائط العقليّة لجميع التكاليف ليس بصحيح.
إن قلت: فهل الجاهل والعاجز مكلّفان بالصلاة والصوم وغيرهما منالواجبات كالعالم والقادر؟!
قلت: نعم، غاية الأمر أنّ كلاًّ من الجهل والعجز معذّر للعبد على مخالفةالتكليف، فلا يستحقّ العقوبة عليها، ويؤيّده ما ذكروه في البراءة العقليّة من أنّالعقاب بلا بيان قبيح عقلاً، ولو لم يكن التكليف متوجّهاً إلى الجاهل لكانالمناسب أن يقال: العقاب بلا تكليف قبيح عقلاً.
وإن أرادوا به إرادة اللّه التشريعيّة يلزمهم القول بتغيّر إرادته تعالى بحسبحالات المكلّفين، ولا يمكن الالتزام به حتّى في إرادته التشريعيّة.
وبالجملة: لا مجال للقول بأنّ لكلّ حكم مرحلتين: الإنشاء، والفعليّة.
والذي نسمّيه حكماً إنشائياً أو شأنيّاً، هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل،سواء لم يعلن بين الناس أصلاً حتّى يأخذوه ويتمّ عليهم الحجّة، لمصالح فيإخفائه وتأخير إجرائه، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى وليّ العصر «عجّلاللّه تعالى فرجه»، ويكون وقت إجرائه زمان ظهوره، لمصالح تقتضي العنايةالإلهيّة، كنجاسة بعض الطوائف المنتحلة بالإسلام وكفرهم، فهي أحكامإنشائيّة في زماننا وإذا بلغ وقت إجرائها تصير فعليّة، وهذا توجيه ما ورد منأنّه «عجّل اللّه تعالى فرجه» يأتي بدين جديد، وإلاّ فـ «مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلامِدِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»(1) و«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ اْلإِسْلامُ»(2).