(صفحه492)
في الواجب الموقّت وغير الموقّت
الفصل الحادي عشر
في الواجب الموقّت وغير(1) الموقّت
اعلم أنّ الإنسان بما أنّ وجوده زماني تكون أفعاله أيضاً زمانيّة، ولا محالة يكونعمود الزمان ظرفاً لها، فلزوم الزمان في تحقّق الواجبات ممّا لا محيص عنه عقلاً.
وأمّا دخالته فيالغرض فيختلف باختلاف الواجبات، فربما يكون المحصّلللغرض نفس الطبيعة من دون أن يكون وقوعها في الزمان دخيلاً في حصوله،بحيث لو أمكن فرضاً إيقاعها خاليةً عن الزمان لكانت صحيحةً محصّلةًللغرض، ولا إشكال في كون هذا القسم داخلاً تحت الواجب غير الموقّت.
وقد يكون الزمان دخيلاً في حصول الغرض، فلا أثر لوقوع الطبيعة خاليةًعن الزمان لو أمكن، لكون المحصّل للغرض وقوعها فيه، وهذا على قسمين،فإنّ الغرض يحصل إمّا بوقوعها في مطلق الزمان أو بوقوعها في زمان معيّن.
والظاهر أنّ القسم الأوّل من هذا النوع أيضاً داخل تحت غير الموقّت، لأنّ الظاهرأنّ الواجب الموقّت مختصّ بما إذا كان للزمان دخل في حصول الغرض أوّلاً، وكان بيانذلك الزمان ـ كبيان أصل الواجب ـ على عهدة الشارع ثانياً، فالواجب الموقّتمايتعلّق فيهالأمر بالطبيعة وظرفها، وإذا كانالدخيل هوالزمان المطلق فلايجب
- (1) ويقال له المطلق أيضاً، لعدم كونه مقيّداً بالوقت والزمان، فالمطلق تارةً يقال في مقابل المشروط،واُخرى في مقابل الموقّت. منه مدّ ظلّه.
ج2
على الشارع بيانه، إذ لا محالة يكون عمود الزمان ظرفاً لكلّ فعل من أفعالالإنسان كما عرفت، بل بيانه لغو قبيح من الحكيم، لأنّ المكلّف لا يقدر علىإيجاده في غير الزمان حتّى يكون الأمر داعياً نحو الزمان وصارفاً عن غيره.
فالصحيح أن يقال: إنّ الموقّت ما عيّن له وقت وغير الموقّت بخلافه، فغيرالموقّت قسمان، والموقّت قسم واحد.
الواجب الموسّع والمضيّق
ثمّ إنّ الزمان المعتبر في الموقّت قد يكون أوسع من وقت يمكن الإتيان بهفيه، فيسمّى موسّعاً، وقد يكون بمقداره، فيسمّى مضيّقاً.
وربما اُورد على الواجب الموسّع بأنّه لو كان واجباً في أوّل الوقت لما جازتركه فيه، وإن لم يكن واجباً فيه فليس موسّعاً.
وفيه: أنّ التوسعة في وقت الواجب ليست بمعنى وجوب إتيانه في أوّلالوقت أو وسطه أو آخره، بل بمعنى أنّ الواجب هو الطبيعة التي يوجدهالمكلّف بين الحدّين من الوقت، كالصلاة الواقعة بين زوال الشمس وغروبها،وليس تركها إلاّ عدم الإتيان بها في تمام الوقت المضروب لها.
ويظهر منه أوّلاً: فساد ما قيل، من أنّ الواجب الموسّع يصير في آخر وقتهمضيّقاً، ضرورة عدم إمكان تبدّل نوع من الواجب إلى نوع آخر منه،فالواجب الموسّع هو الطبيعة التي يجب على المكلّف إيجادها بين الحدّين منالوقت، ولا فرق في ذلك بين إيجادها في أوّل الوقت أو وسطه وبين إيجادها فيآخره، نعم، يحكم العقل في آخر الوقت بعدم جواز التأخير، كي لا يتركالواجب في جميع الوقت المضروب له المحدود بحدّين.
وثانياً: أنّ التخيير بين الأفراد الطوليّة للواجب الموسّع عقلي، كأفراده
(صفحه494)
العرضيّة، فكما أنّ العقل يحكم بالتخيير بين الصلاة في المسجد والمنزلوالمدرسة مثلاً، يحكم أيضاً بالتخيير بين الصلاة في أوّل الوقت ووسطهوآخره، من دون أن يحكم الشارع بذلك، فالواجب الموسّع من الواجباتالتعيينيّة، لتعلّق التكليف بالطبيعة الكلّيّة الواقعة بين الحدّين من دون أنيخيّرنا المولى بكلمة «أو» ونحوها بين أجزاء الوقت كما في التخيير الشرعي.
وأورد بعضهم على الواجب المضيّق بأنّ العبد لا يقدر على تطبيق أجزاءالواجب على أجزاء الوقت بحيث يقع جزئه الأوّل في الجزء الأوّل من الوقت،وجزئه الأخير في الجزء الأخير منه.
وفيه: أنّ المكلّف وإن كان عاجزاً عن التطبيق بالنسبة إلى بعض الواجبات،كالصلاة، إلاّ أنّه قادر عليه بالنسبة إلى بعضها الآخر، كالصوم، والشارع عالمبهذا الأمر، فلا غرو من أن يأمر بالقسم الأوّل موسّعاً وبالقسم الثاني مضيّقاً.
والحاصل: أنّه لا إشكال في إمكان كلّ من الواجب الموسّع والمضيّق، بل لإشكال في وقوعهما أيضاً، فإنّ الصلاة من قبيل الأوّل والصوم من قبيل الثاني،وأدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه.
هل القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد؟
ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت على وجوب الإتيان به في خارج الوقت بعدفوته فيه، بل هذا هو الحكم في سائر التقييدات أيضاً، ضرورة أنّ موضوعالأمر هو الطبيعة المقيّدة بالوقت، فترتفع بارتفاع قيده، فإنّ المقيّد شيء واحدلا تركيب فيه، ضرورة أنّ القيد خارج عنه، والتقيّد وإن كان داخلاً، إلاّ أنّدخوله وجزئيّته أمر عقلي، فحيث إنّ المقيّد أمر غير مركّب ويرتفع بارتفاعقيده، فلايجري هاهنا ما يقال في المركّب، من أنّ الأمر المتعلّق به يتعلّق ضمن
ج2
بأجزائه، فكلّ جزء منه مأمور به ببعض الأمر المتعلّق بالكلّ، فلا مجال للقولبوجوب طبيعة الصلاة مثلاً مع قطع النظر عن وقته بسبب الأمر المتعلّقبالصلاة المقيّدة بالوقت.
وبالجملة: كلّ أمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به، والمفروض أنّ البعث تعلّق بالطبيعةالمتقيّدة بالوقت، فلو قلنا بدعوته خارج الوقت لزم كونه داعياً إلى غير متعلّقه.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
واستثنى المحقّق الخراساني رحمهالله مورداً بقوله: نعم، لو كان التوقيت بدليلمنفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاقلكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التقييد به بحسبتمام المطلوب لا أصله، وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدةالمطلوب كذلك يكون بنحو تعدّدالمطلوب بحيث كان أصلالفعل ولو في خارجالوقت مطلوباً في الجملة، وإن لم يكن بتمام المطلوب، إلاّ أنّه لابدّ في إثبات أنّهبهذا النحو من دلالة ولايكفي الدليل على الوقت إلاّ فيما(1) عرفت(2)، إنتهى.
وحاصلكلامه: أنّثبوتالوجوب بعد انقضاءالوقت يتوقّف علىثلاثةاُمور:
أ ـ أن يكون التوقيت بدليل منفصل عن دليل الواجب، ب ـ أن يكون دليلالتوقيت فاقداً للإطلاق، ج ـ أن يكون دليل الواجب واجداً للإطلاق، فحينئذٍنتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات الوجوب في خارج الوقت.
وهو وإن كان حقّاً إلاّ أنّه ينبغي أن يعدّ استثناءً منقطعاً، لخروجه عن حريمالنزاع، فإنّ البحث إنّما هو في دلالة الأمر بالموقّت على وجوبه خارج الوقت،
- (1) يعني فيما يكون لدليل الواجب إطلاق ولا يكون إطلاق لدليل التقييد ، وكان الأنسب التعبير بأنّه«ولايكفي الدليل على الواجب الموقّت». حقائق الاُصول 1: 341.
(صفحه496)
وهو رحمهالله تمسّك في هذا المورد بإطلاق الأمر المتعلّق بنفس الطبيعة المجرّدة عنتقيّدها بالوقت، لا بأمر متعلّق بالموقّت كما هو واضح.
ما يقتضيه الاُصول العمليّة في المقام
ولامجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت، لاختلاف القضيّةالمتيقّنة والمشكوكة حتّى بنظر العرف، وباختلافهما كذلك ينهدم أساس الاستصحاب.
توضيح الاختلاف: أنّ مصبّ الحكم ومحطّ الوجوب في الأحكام الشرعيّةالمتعلّقة بالعناوين المقيّدة هو نفس تلك العناوين مع قيودها، والعنوان المقيّدوذات العنوان مختلفان في نظر العرف، فالصلاة الموقّتة غير نفس الصلاةعنواناً، والقضيّة المتيقّنة هي وجوب الصلاة الموقّتة، والمشكوك فيها هيوجوب نفس الصلاة، فإسراء الحكم من المتقيّدة إلى الخالية من القيد إسراءمن موضوع إلى موضوع آخر.
إن قلت: فكيف قالوا بجريان الاستصحاب في كثير من نظائره؟ منها أنّهورد «أنّ الماء الكرّ إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بسبب الملاقاة بالعين النجسةيتنجّس»، ثمّ لا إشكال في صيرورته طاهراً لو زال تغيّره بإلقاء كرّ آخر عليه،إنّما الإشكال فيما إذا زال تغيّره من قبل نفسه، فهل يحكم بصيرورته طاهراً أملا؟ قالوا: لا، لجريان استصحاب بقاء النجاسة، وهل هذا إلاّ استصحابالحكم المتعلّق بالمقيّد بعد زوال قيده؟! فلو كان زوال القيد مخلاًّ بوحدةالقضيّتين المعتبرة في الاستصحاب لما جرى في هذا المثال أيضاً، وإن لم يكنمخلاًّ بها فلابدّ من جريانه في المقام أيضاً.
قلت: الحكم في مسألة الواجب الموقّت حكم تكليفي، وقد عرفت سابقاً أنّالأحكام التكليفيّة متعلّقة بالطبايع والماهيّات، لا بالأفراد والوجودات، فإنّ