في الواجب التخييري
الفصل التاسع
في الواجب التخييري
الحقّ أنّ الوجوب التخييري قسم خاصّ من الوجوب في مقابل التعييني،وله أحكام مختصّة به، فكلّ واحد من طرفيه أو أطرافه واجب، لكن يجوزتركه بشرط الإتيان بعدله الآخر، ولو تركهما لا يستحقّ إلاّ عقوبة واحدة، كمأنّه لو أتى بهما لا يستحقّ إلاّ مثوبة واحدة.
البحث في رجوع الواجب التخييري إلى التعييني
لكنّ بعضهم أرجعه إلى الواجب التعييني، واختلفوا في توجيهه:
فقال بعض هؤلاء: إنّ الواجب واحد منهما مجهول عندنا معيّن عند اللّه، فإنكان ما أتى به العبد مطابقاً للواقع فبها ونِعم المطلوب، وإن كان مخالفاً له فهوأمرٌ مباح مسقط للواجب.
وقال بعض آخر: إنّ الواجب أحدهما لا بعينه، ويحتمل أن يكون مرادهأحدهما المفهومي، أو أحدهما المصداقي الذي يعبّر عنه بالفرد المردّد.
وذهب بعض ثالث إلى أنّ الواجب واقعاً هو ما اختاره المكلّف بعينه، فهويختلف باختلاف اختيار المكلّفين، بل باختلاف اختيار مكلّف واحد في وقائعمتعدّدة.
ج2
كلام صاحب الكفاية في المسألة
وفصّل المحقّق الخراساني رحمهالله بين ما إذا كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّههناك غرض واحد(1) يقوم به كلّ واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل بهتمام الغرض، فيرجع إلى الواجب التعييني، لأنّ الواجب كان في الحقيقة هوالجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً، وذلكلوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهمجامع في البين، لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول، وعليه فجعلهممتعلّقين للخطاب الشرعي كان لبيان أنّالواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.
وبين ما إذا كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرض مستقلّ، لكنّه إذحصل الغرض في أحدهما بإتيانه لا يكاد يحصل في الآخر، فلا يرجع إلىالواجب التعييني، لأنّ كلّ واحد منهما واجب بنحو من الوجوب يستكشفعنه تبعاته، من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر، وترتّب الثواب على فعلالواحد منهما، والعقاب على تركهما، فهذا قسم خاصّ من الوجوب يسمّىواجباً تخييريّاً شرعيّاً في مقابل الواجب التعييني(2).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام
وفيه أوّلاً: أنّ القاعدة المقطوعة المسلّمة عند الحكماء هي أنّ «الواحد ليكاد يصدر منه إلاّ الواحد» ولذا اختلفوا في الصادر الأوّل الذي أوجده
- (1) وجلّ الواجبات التخييريّة من هذا القبيل. منه مدّ ظلّه.
(صفحه476)
واجب الوجود الذي هو واحد بوحدة حقيقيّة، وجاء في بعض الأخبار أنّالصادر الأوّل هو نور خاتم النبيّين صلىاللهعليهوآله .
وأمّا عكس هذه القاعدة أعني «الواحد لا يكاد يصدر إلاّ من الواحد» فهومحلّ خلاف بينهم، وعلى فرض كونها قاعدة مسلّمة فيمكن أن تكونمخصّصة بموارد خاصّة، ويشهد عليه أنّ الفلاسفة ذهبوا إلى جواز اجتماععلّتين على معلول واحد(1).
وثانياً: سلّمنا أنّها قاعدة مقطوعة عامّة لجميع مواردها، وأنّ لنا فيالواجب التخييري أمراً جامعاً هو المؤثّر في الغرض، لكنّه لا يقتضي أن يكونالوجوب متعلّقاً بذلك الجامع، إذ يمكن أن يتعلّق ـ كما هو ظاهر الخطاب بكلّ من الأمرين باعتبار كونهما محصّلاً للجامع الذي هو مؤثّر في الغرض.
بل الطريق منحصر فيه، إذ لا يتمكّن المولى تفهيم لزوم الإتيان بالأطرافـ التي لا سنخيّة بينهما بحسب الظاهر، كعتق الرقبة أو صيام شهرين متتابعينأو إطعام ستّين مسكيناً ـ إلاّ بتوجيه الأمر إلى نفس هذه الأطراف بنحوالتخيير.
وبالجملة: لامجال للتفصيل المذكور فيالكفاية بين ما إذا كان الغرض واحدأو متعدّداً بإرجاع الأوّل إلى الواجب التعييني، لعدم ملزم عقلي على رفع اليدعن ظهور الخطابات في التخيير الشرعي، والقول بكون التخيير عقليّاً.
إشكال ودفع
- (1) واعترف به المحقّق الخراساني رحمهالله في آخر مبحث الواجب الكفائي بقوله: كما هو قضيّة توارد العللالمتعدّدة على معلول واحد. كفاية الاُصول: 177.
ثمّ اعلم أنّ الواحد شخصي ونوعي، وقال في كتاب «تعليقة على نهاية الحكمة ص245»: إنّ امتناع صدورفعل واحد شخصي عن فواعل متعدّدة تامّة الفاعليّة واضح لا خلاف فيه، وأمّا امتناع صدور النوع الواحدمن المعلول عن علل كثيرة فممّا وقع فيه الخلاف، ثمّ نقل بعض آراء الحكماء في ذلك. م ح ـ ى.
ج2
نعم، في هذا الباب شبهة مهمّة، وهي أنّ الإرادة صفة حقيقيّة قائمة بنفسالمريد، وتشخّصها بتشخّص المراد، كما أنّ تشخّص سائر الأوصاف النفسانيّةذات الإضافة بتشخّص ما تضاف إليه، كالعلم الذي تعيّنه بتعيّن المعلوم، ولفرق في ذلك بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة، فكما أنّه لا يمكن إبهام المراد فيالإرادة التكوينيّة التي يباشر فيها المريد فعل المراد بنفسه، بحيث لا يصحّ أنيقول: «اُريد أن أعمل عملاً غير معيّن عندي» فكذلك في التشريعيّة التي يريدفيها المريد وجود العمل بسبب العبد ونحوه بتوجيه الأمر إليه، فلايمكن أنيكون الواجب مبهماً مردّداً بين شيئين أو أشياء، كما هو المدّعى في الواجبالتخييري.
إن قلت: تعلّق العلم الإجمالي بالأمر المبهم المردّد بين طرفين أو أكثر دليلعلى عدم لزوم تعيّن ما يضاف إليه الصفات النفسانيّة.
قلت: متعلّق العلم الإجمالي معلوم معيّن، ولكن تطبيقه على الطرف الذيينطبق عليه في الواقع مجهول لنا. توضيح ذلك: أنّ لنا في العلم التفصيلي علمين:أحدهما العلم بوجود الخمر هاهنا مثلاً، والآخر العلم بتطبيق ذلك الخمرالموجود على هذا الإناء المعيّن، وفي العلم الإجمالي لنا علم واحد متعلّق بأنّالخمر هاهنا موجود ولا إبهام فيه، بل المبهم انطباقه على إناء خاصّ ولميتعلّق العلم به.
والحاصل: أنّه لا يمكن تحقّق الإرادة مع إبهام المراد، ولا فرق في ذلك بينالتكوينيّة منها والتشريعيّة.
ولعلّ هذه الشبهة الجأتهم على أن يذهبوا إلى أنّ الواجب في الواجبالتخييري واحد معيّن عند اللّه، أو أحدهما، أو ما يختاره المكلّف.
والجواب: أنّها إنّما تلزم لو لم يكن في الواجب التخييري إلاّ وجوب واحد