ج2
نعم، بناءً على تماميّة ما استدلّ به سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره لإثباتظهور الصيغة في أصل الوجوب، من حكم العقل بتماميّة الحجّة على العبد عندصدور البعث من المولى، فلابدّ له من الامتثال، ولا يجوز له المخالفة معتذربقوله: إنّي احتملت كونه واجباً غيريّاً، ولمّا يدخل وقت وجوب ذي المقدّمةحتّى يترشّح منه الوجوب الغيري، أو احتملت كونه واجباً تخييريّاً وأنا أتيتبعدله الآخر، أو واجباً كفائيّاً وغيري فعله، كما لا يجوز له المخالفة معتذرباحتمال كونه للندب.
فهذا الدليل كما يدلّ على أصل الوجوب بناءً على تماميّته، يدلّ أيضاً علىكون الوجوب نفسيّاً تعيينيّاً عينيّاً، ولكنّ الكلام في تماميّته، كما تقدّم في مبحثظهور الصيغة للوجوب.
وتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الواجب إذا دار أمره بين النفسيّة والغيريّةفالقاعدة تقتضي كونه نفسيّاً، وأمّا إذا دار أمره بين التعيينيّة والتخييريّة أو بينالعينيّة والكفائيّة فلا دليل لاستظهار أحد الطرفين.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة.
(صفحه142)
ج2
في الأمر الواقع عقيب الحظر
المبحث السادس: في الأمر الواقع عقيب الحظر
اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فيما إذوقعت عقيب الحظر، أو في مقام توهّمه(1) على أقوال:
نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة، وإلى بعض العامّه ظهورها فيالوجوب، وإلى بعض تبعيّتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي(2)،إلى غير ذلك.
ولابدّ لنا قبل بيان الحقّ في المسألة من توضيح لكلام المشهور القائلينبظهورها في الإباحة، وهو أنّ غرضهم ليس كون الصيغة حقيقةً في غير معناهالحقيقي الأوّلي إذا وقعت عقيب الخطر، أو في مقام توهّمه، بل بعد تسليم كونهحقيقةً في الوجوب ومجازاً في غيره، من غير فرق بين المقامات، قالوا بأنّ
- (1) المراد بالتوهّم أعمّ من الظنّ والشكّ والوهم. منه مدّ ظلّه.
- (2) هذا إذا وقع الأمر عقيب النهي المقطوع وعلّق بزوال علّته، وأمّا إذا وقع في مقام توهّم النهي أو وقععقيبه، ولكن لم يعلّق بزوال علّته، سواء لم يعلّق أصلاً، أو علّق بشيء غيره، كان ظاهراً في الوجوب،كسائر الموارد التي لم يقع فيها عقيب الحظر ولا في مقام توهّمه أصلاً. ويمكن التمثيل لوقوع الأمرعقيب النهي المقطوع وتعليقه بزوال علّته بتعليق الأمر بقتل المشركين على انسلاخ الأشهر الحرم فيقوله تعالى ـ في سورة التوبة، الآية 5 ـ : «فَإِذَا انسَلَخَ الاْءَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُوَجَدْتُمُوهُمْ» والشهر الحرام جعل سبباً لحرمة القتال في قوله تعالى ـ في سورة البقرة، الآية 217 ـ :«يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» فعلّق الأمر في الآية الاُولى بزوال علّةالنهي، فيدلّ على الوجوب، لأنّ قتال المشركين قبل الأشهر الحرم كان واجباً. منه مدّ ظلّه في توضيحكلام هذا البعض من العامّة.
(صفحه144)
الوقوع عقيب الخطر أو في مقام توهّمه قرينة عامّة صارفة عن الحقيقة معيّنةلأحد المجازات، وهو الإباحة.
فلهم دعويان: أ ـ عدم ظهور الصيغة في معناها الحقيقي إذا وقعت عقيبالحظر أو في مقام توهّمه، ب ـ ظهورها في الإباحة التي هي أحد المجازات.
مقتضى التحقيق في المقام
ولا مدرك لهذه الأقوال، إلاّ موارد الاستعمال، ولقد أجاد صاحبالكفاية رحمهالله حيث قال: لا مجال للتشبّث بموارد الاستعمال، فإنّه قلّ مورد منهيكون خالياً عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعيّة، ومع فرضالتجريد عنها لم يظهر بعدُ كون عقيب الحظر(1) موجباً لظهورها في غير متكون ظاهرة فيه، غاية الأمر يكون موجباً لإجمالها غير ظاهرة في واحدمنها، إلاّ بقرينة اُخرى، كما أشرنا(2)، إنتهى كلامه.
وهو حقّ، فنحن نوافق المشهور في دعواهم الاُولى، لا الثانية.
لأنّ الكلام إذا كان مقترناً بما يصلح للقرينيّة وشككنا في أنّ المتكلّم أرادالمجاز اعتماداً عليه أم لا، صار مجملاً، فإذا قال: «رأيت أسداً وذئباً يرمي»،وشككنا في أنّ المراد من الأسد هل هو معناه الحقيقي أو المجازي، لأجل الشكّفي أنّه جعل لفظ «يرمي» قيداً للكلمة الأخيرة فقط، أو لكلتا الكلمتين،
- (1) لا بأس بذكر نكتتين توضيحاً لكلام المحقّق الخراساني رحمهالله :
الاُولى: أنّ ذكر كون الصيغة عقيب الحظر من باب المثال، وإلاّ فحكم كونها في مقام توهّم الحظر أيضكذلك عنده.
الثانية: أنّه ربما يبدو في بادئ النظر أنّه جعل كونها عقيب الحظر أو في مقام توهّمه قرينةً صارفةً عنالمعنى الحقيقي بحيث كان خارجاً عن المعاني المحتملة، ولكنّ النظر الدقيق في كلامه يقضي بأنّه جعلالمعنى الحقيقي أيضاً أحد المحتملات، ألا ترى أنّه قال: يكون «كون عقيب الحظر» موجباً لإجمالها غيرظاهرة في واحد منها «أي من الوجوب والإباحة والتبعيّة» إلاّ بقرينة اُخرى. منه مدّ ظلّه.
ج2
صارت كلمة «أسد» مجملةً غير ظاهرة، لا في معناها الحقيقي، ولا في معناهالمجازي، وذلك لأنّ الشكّ في اعتماد المتكلّم على ما يصلح للقرينيّة يوجبإجمال الكلام، فلا يكون ظاهراً في المعنى الحقيقي، لاحتمال الاعتماد عليه، ولا فيالمعنى المجازي، لاحتمال عدم الاعتماد عليه.
هذا بناءً على ما هو الحقّ من أنّ أصالة الحقيقة شعبة من أصالة الظهور،فعلى هذا بناء العقلاء على أصالة الحقيقة إنّما هو لأجل الظهور في المعنىالحقيقي، فيرتفع بنائهم بارتفاع الظهور، وأمّا بناءً على كون أصالة الحقيقةأصلاً عقلائيّاً تعبّديّاً وإن لم يكن ظهور في البين، فلابدّ من حمل الأسد فيالمثال المتقدّم والأمر في ما نحن فيه، على المعنى الحقيقي الأوّلي، ولكن كونأصالة الحقيقة أصلاً تعبّديّاً مستقلاًّ مردود عندنا.
وبالجملة: لا فرق بين المقام وبين قول القائل: «رأيت أسداً وذئباً يرمي» فيتحقّق الإجمال في كليهما، لأجل الاقتران بما يصلح للقرينيّة، وإن كانت القرينةفي المثال مقاليّة وخاصّة، وفي المقام مقاميّة(1) وعامّة.
والحاصل: أنّ الأمر الواقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه يكون مجملاً ما لميقترن بقرينة اُخرى.
- (1) القرينة المقاميّة: هي القرينة الحاليّة، في مقابل القرينة اللفظيّة المقاليّة. منه مدّ ظلّه.