(صفحه58)
وأمّا القسم الثاني ـ أعني ما إذا كان غرضه أمراً آخر ـ من التهديدوالتسخير والتعجيز وغيرها، فالصيغة في هذه الموارد استعملت أيضاً في إنشاءالبعث والتحريك، لكن بادّعاء كون التهديد مثلاً من مصاديقهما أيضاً.
والحاصل: أنّ هيئة «افعل» وضعت لإنشاء البعث والتحريك، واستعمالها فيسائر الموارد مجاز، لكن قد عرفت(1) أنّ المجاز ليس من قبيل استعمال اللفظ فيغير ما وضع له، بل هو استعماله في المعنى الحقيقي كما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذالأعظم الإمام قدسسره تبعاً لاُستاذه الشيخ محمّد رضا الاصفهاني النجفي صاحبكتاب «وقاية الأذهان»، فإذا استعملت صيغة الأمر في مقام التهديد مثلاستعملت في معناه الحقيقي، بادّعاء توسعته بحيث يشمل التهديد أيضاً، فيكونمصداقاً ادّعائيّاً له.
إزاحة شبهة
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال في مقام دفع شبهة قرآنيّة:
إيقاظ: لا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصيغ الإنشائيّة،فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمنّي أو الترجّي أو الاستفهام بصيغها تارةً هوثبوت هذه الصفات حقيقةً، يكون الداعي غيرها اُخرى، فلا وجه للالتزامبانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى،لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه تبارك وتعالى ممّا لازمه العجز(2) أوالجهل(3)، وأنّه لا وجه له(4)، فإنّ المستحيل إنّما هو الحقيقي منها لا الإنشائي
- (1) راجع «الأمر الثالث: في استعمال اللفظ في المعنى المجازي» ص235 من الجزء الأوّل.
- (2) كما في التمنّي. م ح ـ ى.
- (3) كما في الترجّي والاستفهام. م ح ـ ى.
- (4) قال آية اللّه الحكيم في حقائق الاُصول: هذا تأكيد لقوله: «لا وجه للالتزام». م ح ـ ى.
ج2
الإيقاعي الذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصيغة كما عرفت، ففي كلامهتعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضاً، لا لإظهار ثبوتهحقيقةً، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبّة(1) أو الإنكار،أو التقرير، إلى غير ذلك، ومنه ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغةالاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً(2)، إنتهى كلامه.
أقول: إنّ التمنّي والترجّي والاستفهام اُمور حقيقيّة قائمة بالنفس، فلا يتعلّقبها الإنشاء، فلابدّ من حلّ إشكال استعمال أدواتها في القرآن بما مرّ نظيره فيصيغة الأمر، من أنّ أدوات التمنّي والترجّي والاستفهام موضوعة لإظهارالحقيقي من هذه الاُمور، ومستعملة فيه دائماً، حتّى في كلامه تعالى، لكنبادّعاء توسعة المعنى الحقيقي، بحيث يعمّ مثل إظهار المحبّة ونحوه، فإذاستعملت في إظهار معانيها مع تحقّقها حقيقةً في النفس كان حقيقةً، وإلفمجازاً(3).
- (1) كما في قوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى» طه: 17. م ح ـ ى.
- (3) الحقيقة: من الحقّ، وهو بمعنى الثبوت، والمجاز: من الجواز، وهو بمعنى العبور، فإنّا إذا استعملنا اللفظفي معناه حال كونه ثابتاً، أعني من دون أن يكون معبراً للوصول إلى المعنى المجازي الذي هو مصداقادّعائي له كان حقيقةً، وإذا استعملناه فيه حال كونه معبراً للوصول إليه كان مجازاً. منه مدّ ظلّه.
(صفحه60)
في دلالة صيغة الأمر على الوجوب
المبحث الثاني: فيما هي حقيقة فيه
اختلفوا في أنّ الصيغة حقيقة في خصوص الوجوب، أو في الأعمّ منه ومنالندب بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي على أقوال:
وقبل الخوض في المسألة لا بأس بذكر اُمور مقدّمةً:
1ـ قد عرفت(1) أنّ اختلاف الوجوب والندب في شدّة الطلب وضعفه،فاعلم الآن أنّهما قسمان من البعث والتحريك الاعتباري، لا من الطلب، لمعرفت من أنّ الصيغة موضوعة لإنشائهما، لا لإنشائه، فما ذكرنا هناك كانمبنيّاً على مسلك المشهور من كون المنشأ بالصيغة هو الطلب، وإلاّ فالحقّ فيالتعبير أن يقال: اختلافهما في شدّة البعث والتحريك وضعفهما، وإنّما كانعبارتنا هناك ملائمة لمذهب المشهور، لتوقّف التعبير بالبعث والتحريك علىإثبات أنّ الصيغة وضعت لإنشاء البعث والتحريك الاعتباريّين، وهذا لم يكنمفروغاً عنه هناك، فاضطررنا إلى التعبير المناسب لمسلك المشهور.
2ـ لا إشكال في اتّصاف البعث والتحريك الواقعيّين بالشدّة والضعف، وأمّالإرادة فربما يستظهر من تفسيرها بالشوق المؤكّد المستتبع لتحرّك العضلاتنحو المراد كما في الكفاية عدم اتّصافها بهما، مع أنّه خلاف الواقع، ألا ترى أنّكإذا أردت إنقاذ الغريق من البحر كان إلقاء نفسك فيه مسبوقاً بإرادة شديدة،
ج2
وإذا أردت السباحة كان الإلقاء مسبوقاً بإرادة ضعيفة؟
اللّهمّ إلاّ أن يكون للشوق المؤكّد مراتب يكون في بعضها نفس التأكّد وفيبعضها كمال التأكّد، وعليه فلا إشكال في تفسير الإرادة به.
والكاشف عن شدّة الإرادة وضعفها تارةً هو الأعمال المترتّبة عليها،فخروج الإنسان عن الدار مثلاً سريعاً عرياناً مضطرباً كما في موارد الزلزلةكاشف عن تعلّق الإرادة الشديدة بالخروج، وخروجه عنها بطيئاً مطمئنّكاشف عن تعلّق الإرادة الضعيفة به، واُخرى هو عللها المكوّنة لها التي أهمّهدرك المريد أهمّيّة المراد، فإذا كان درك المريد لعظمة المراد قويّاً كان إرادته لهشديدة، وإذا كان ضعيفاً كانت ضعيفة، فحن نصلّي، والأئمّة عليهمالسلام أيضاً كانويصلّون، لكن لا ريب في أنّ إرادتهم للصلاة كانت أشدّ من إرادتنا، لأنّإدراكهم لعظمتها كان أقوى من إدراكنا.
فالكاشف أمران: عمل المريد، ومقدار درك عظمة المراد(1).
3ـ الأفعال الاختياريّة كلّها مسبوقة بالإرادة ومباديها بحكم العقل،والإرادة مخلوقة نفس الإنسان، فإنّ اللّه سبحانه أودع في نفس الإنسان قوّةخلاّقة تخلق الإرادة قبل كلّ فعل اختياري، ومنه التكلّم، فالمتكلّم يريد ـ قبلصدور كلّ جملة ـ لفظ الموضوع والمحمول وهيئة الجملة ومعنى كلّ واحد منهذه الاُمور الثلاثة، ففي كلّ جملة إرادات ستّة مخلوقة لنفس المتكلّم، ولكلّ
- (1) إذا انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس بذكر أمر إجمالاً حول العصمة:
وهو أنّ العصمة تتحقّق لا محالة للإنسان إذا أدرك واقعيّة المعاصي وعظم خطرها، وبعض مراتبالعصمة متحقّقة لنا أيضاً، ألا ترى أنّه لا يمكن لعاقل أن يكشف عورته بمرأى الناس ومنظرهم مع كونهمختاراً فيه، وذلك لأنّه أدرك عظمة قبحه، والمعصومون عليهمالسلام حيث أدركوا عظمة قبح جميع المعاصي لميمكن لهم ارتكابها، ومع ذلك لم يكونوا مسلوبي الاختيار مكرهين على الترك، ولو كنّا نحن أيضمدركين عظمة قبحها كما أدركوها لصرنا معصومين، فصدور الغيبة التي هي أشدّ من الزنا منّا دونهم ناشٍعن عدم إدراكنا قبحها العظيم وإدراكهم ذلك. منه مدّ ظلّه.
(صفحه62)
إرادة مبادٍ مخصوصة بها، وإن كنّا نتخيّل صدور الألفاظ وإلقاء معانيها من قبلالمتكلّم من غير إرادة، وعلى هذا فصدور صيغة «افعل» أيضاً يكون مسبوقبإرادة الآمر، كسائر الأفعال الاختياريّة.
أدلّة القول بظهور الصيغة في الوجوب
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّه قد استدلّ لدلالة الصيغة على خصوصالوجوب باُمور:
الأوّل: التبادر، كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا يبعد تبادر الوجوب عنداستعمالها بلا قرينة(1).
الثاني: الانصراف، بمعنى أنّ الصيغة وإن وضعت للأعمّ، إلاّ أنّها لكثرةالاستعمال في الوجوب منصرفة إليه. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله فيالمبحث الرابع من الكفاية(2).
الثالث: قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، فإنّ الصيغة وإن وضعت للأعمّإلاّ أنّ المولى إذا استعملها بلا قيد وقرينة وكان في مقام البيان كانت ظاهرة فيالوجوب، فإنّ الندب لنقصانه يحتاج إلى تقييد وتحديد، بخلاف الوجوب الذيهو طلب كامل. وهذا ممّا أفاده المحقّق العراقي رحمهالله لإثبات ظهور صيغة الأمر فيالوجوب(3)، كما كان أفاده أيضاً لإثبات ظهور المادّة فيه.
وسبقه إلى ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله في المبحث الرابع من الكفاية(4).
الرابع: أنّ صدور الصيغة كاشف عند العقلاء عن الإرادة الحتميّة القائمة
- (3) نهاية الأفكار 1 و 2: 179.