فلا طريق لنا إلى استكشاف كون الأمر غيريّاً إلاّ بعد إحراز شرطيّةمتعلّقه، فتوقّف العلم بالشرطيّة على الأمر الغيري يستلزم الدور.
هذا تمام الكلام في مقدّمة الواجب.
ولا يتوهّم أنّ الوضوء مثلاً واجب للصلاة المستحبّة، كما هو واجبللواجبة، لكونه شرطاً لازماً لكلتيهما، ضرورة أنّ الصلاة سواء كانت واجبةأو مستحبّة لاتقع صحيحةً إلاّ إذا كانت مع الطهارة.
فإنّ هذا الوجوب وجوب شرطي، لا مولوي تكليفي، وبعبارة اُخرى: إذقلنا: «يجب الوضوء للصلاة ولو كانت مستحبّة» معناه أنّه شرط لها، وأمّ
حكمه فهو الاستحباب الشرعي الغيري بناءً على الملازمة، والرجحان العقليبناءً على عدمها.
القول في مقدّمة الحرام
وفي مقدّمة الحرام خمسة أقوال:في مقدّمة الحرام
1ـ ثبوت الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته مطلقاً،
2ـ عدم ثبوتها مطلقاً،
3ـ التفصيل بين العلّة التامّة في الأفعال التوليديّة، وبين غيرها، من أجزاءالعلّة مطلقاً والعلّة التامّة من الأفعال غير التوليديّة،
4ـ التفصيل بين المقدّمة الموصلة وغيرها،
5ـ التفصيل بين ما قصد به التوصّل إلى الحرام وغيره.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
والمحقّق الخراساني رحمهالله مع ذهابه في مقدّمة الواجب إلى تحقّق الملازمة مطلقذهب هاهنا إلى القول الثالث، وهو تحقّق الملازمة بين حرمة الشيء وحرمةعلّته التامّة في خصوص الأفعال التسبيبيّة، وعدم تحقّقها بينهما فيما إذا كانتالمقدّمة جزءً للعلّة أو علّةً تامّة لغير الأفعال التوليديّة.
وفرّق بين المسألتين(1) بأنّ المطلوب في الواجب إنّما هو وجود الفعل، وهويتوقّف على كلّ واحدة من مقدّماته، بحيث لو تركت إحداها لم يتحقّقالمطلوب، فوجوب شيء يستلزم وجوب كلّ واحدة من مقدّماته، بخلافالحرام الذي يكون المطلوب فيه ترك الفعل، فإنّ الترك يتحقّق بترك إحدى
- (1) أي مسألة مقدّمة الواجب ومسألة مقدّمة الحرام. م ح ـ ى.
ج2
المقدّمات، فلو أتى بجميع مقدّمات الحرام سوى واحدة منها لتحقّق المطلوب،وهو ترك الحرام، فلا ملازمة إلاّ بين حرمة الشيء وحرمة علّته التامّة فيخصوصالأفعال التوليديّةالتي(1) يتحقّقالحرام قهراً عقيبها، كالإحراقالحاصلقهراً عقيب إلقاء الشيء في النار من دون دخل إرادة الملقي في الإحراق.
إن قلت: ما من فعل إلاّ وله علّة تامّة توجب تحقّقه، فلماذا خصّصت الحرمةبالعلّة التامّة في خصوص الأفعال التوليديّة؟
قلت: نعم، ولكنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة في غيرها إنّما هو إرادة الفاعل،وهي لاتكاد تتّصف بالحرمة، لكونها غير اختياريّة، والتكليف لا يتعلّق إلبمقدور(2).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
نقد كلام صاحب الكفاية في مقدّمة الحرام
ويرد عليه أوّلاً: أنّا لا نسلّم عدم اختياريّة الإرادة كما قلنا كراراً، وإلاّ امتنعاعتبار قصد القربة بل اعتبار أصل النيّة(3) في العبادات شرعاً أو عقلاً.
مناقشة الإمام الخميني في كلام صاحب الكفاية
وثانياً: ما أورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره ، وهو أنّ الإرادةليست هي الجزء الأخير للعلّة التامّة لا في الأفعال التوليديّة ولا في غيرها، أمّفي الأفعال التوليديّة فهو واضح، وصاحب الكفاية رحمهالله أيضاً معترف به، وأمّا فيغيرها فلأنّ من يشرب الماء مثلاً ينقدح في نفسه أوّلاً إرادة شرب الماء، ثمّ
- (1) صفة للعلّة التامّة لا للأفعال التوليديّة. م ح ـ ى.
- (3) فإنّ نيّة الشيء عبارة اُخرى عن قصده وإرادته. م ح ـ ى.
(صفحه400)
يأتي بمقدّماته، من تقريب الكأس إلى فمه وصبّ الماء فيه وتحريك الأعضاءالخاصّة بالبلع، فيتحقّق الشرب عقيبها قهراً، فالإرادة تتحقّق قبل سائرالمقدّمات لا بعدها، كيف والإرادة المتعلّقة بالمقدّمات تابعة للإرادة المتعلّقةبذيها؟!
فالفاعل يريد الفعل أوّلاً، ثمّ يريد مقدّماته ثانياً، ثمّ يأتي بها ثالثاً، فيتحقّقالفعل قهراً، ولا فرق في ذلك بين الأفعال التوليديّة وغيرها، فكما أنّ إرادةإحراق شيء تنقدح في نفس الفاعل أوّلاً ثمّ إرادة إلقائه في النار، ثمّ يلقيه فيها،فيترتّب عليه الإحراق، كذلك إرادة شرب الماء تنقدح في نفسه أوّلاً ثمّ إرادةمقدّماته، ثمّ يأتي بالمقدّمات التي آخرها تحريك الأعضاء الخاصّة بالبلع، فيقعشرب الماء، فكما أنّ الإلقاء في النار هو الجزء الأخير للعلّة في مسألةالإحراق، فكذلك تحريك الأعضاء الخاصّة بالبلع هو الجزء الأخير لها فيمسألة شرب الماء لا إرادة الشرب.
إن قلت: نعم، ولكن نفس تحريك الأعضاء الخاصّة بالبلع لا يتحقّق إلاّ عنإرادة واختيار.
قلت: نعم، ولكنّ الإرادة التي فرضت الجزء الأخير من العلّة في كلام المحقّقالخراساني رحمهالله هي إرادة نفس الفعل لا إرادة مقدّماته، ولا فرق في ذلك بينالأفعال التوليديّة وغيرها، فإنّ الإنسان كما يريد أوّلاً الإحراق ثمّ يأتيبمقدّماته، كذلك يريد أوّلاً شرب الماء ثمّ يأتي بمقدّماته.
على أنّه لا فرق بين الأفعال التوليديّة وغيرها في صدور الجزء الأخير منعلّتهما التامّة عن إرادة واختيار، فإنّ الإلقاء في النار ـ في مثال الإحراق يتحقّق عن إرادة، كما أنّ تحريك الأعضاء الخاصّة بالبلع ـ في مثال شربالماء ـ يتحقّق كذلك، فلا فرق بين هذين النوعين من الأفعال في محلّ النزاع
ج2
أصلاً، فلو قيل بحرمة العلّة التامّة في الأفعال التوليديّة، فلابدّ من القول بها فيغيرها أيضاً، ولا يصحّ التفصيل بين النوعين من الأفعال(1).
هذا حاصل كلام الإمام رحمهالله مع توضيح منّا.
وهو دقيق متين، إلاّ فيما إذا تعلّقت الإرادة بشيء يتحقّق عقيبها من دونتوسّط أيّة مقدّمة، كحركة الأعضاء والجوارح، فإرادة حركة اليد مثلاً علّةتامّة لها، بحيث تحصل حركتها عقيب إرادتها مندون أن تحتاج إلى شيء آخر.
كلام المحقّق الحائري رحمهالله في مقدّمة الحرام
قال المحقّق الحائري رحمهالله في الدرر: إنّ العناوين المحرّمة على ضربين: أحدهما:أن يكون العنوان بما هو مبغوضاً من دون تقييده بالاختيار وعدمه، من حيثالمبغوضيّة، وإن كان له دخل في استحقاق العقاب، إذ لا عقاب إلاّ على الفعلالصادر عن اختيار الفاعل، والثاني: أن يكون الفعل الصادر عن إرادةواختيار مبغوضاً، بحيث لو صدر عن غير اختياره لم يكن منافياً لغرضالمولى، فعلى الأوّل علّة الحرام هي المقدّمات الخارجيّة من دون مدخليّةالإرادة، بل هي علّة لوجود علّة الحرام، وعلى الثاني تكون الإرادة من أجزاءالعلّة التامّة.
إذا عرفت هذا فنقول: نحن إذا راجعنا وجداننا نجد الملازمة بين كراهة(2)الشيء وكراهة العلّة التامّة له من دون سائر المقدّمات، كما إذا راجعنا الوجدانفي طرف إرادة الشيء نجد الملازمة بينها وبين إرادة كلّ واحدة من مقدّماته،وليس في هذا الباب دليل أمتن وأسدّ منه، وما سوى ذلك ممّا أقاموه غير نقيّ
- (1) تهذيب الاُصول 1: 401.
- (2) لم يرد من «الكراهة» معناها الاصطلاحي الفقهي، بل أراد معناها اللغوي، فيناسب الحرمة المبحوثعنها في المقام. منه مدّ ظلّه في توضيح كلام المحقّق الحائري رحمهالله .