(صفحه286)
الوجوب عبارة عن الإرادة المظهرة، لا عن البعث الاعتباري الذي هو مفادالهيئة، مع قبوله رجوع القيد إلى الهيئة، فكلاهما يتّحدان في القول بكونالوجوب حاليّاً والواجب استقباليّاً، ويختلفان في أنّ البعث والتحريكالاعتباري هل هو حالي أم لا؟ فذهب الشيخ رحمهالله إلى الأوّل والمحقّق العراقي إلىالثاني.
المقدّمات المفوّتة
ثمّ استشكل على ما ذهب إليه المشهور من كون الوجوب مقيّداً، بأنّالواجب المشروط إذا كان متوقّفاً على مقدّمة يتمكّن العبد من تحصيلها قبلتحقّق الشرط لا بعده ـ وتسمّى بالمقدّمة المفوّتة ـ فإن قيل بوجوب المقدّمةقبل تحقّق الشرط يلزم تقدّم وجوبها على وجوب ذيها مع أنّ وجوبها ناشٍمن وجوبه، وإن قيل بعدم وجوبها يلزم أن لا يكون العبد قادراً على المأموربه في ظرفه لو لم يأت بالمقدّمة قبلاً، لأنّا فرضنا عدم قدرته عليها في ظرفذيها.
وفيه: أنّ ذلك توهّم محض حصل من تخيّل أنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمةمترشّحة من الإرادة المتعلّقة بذيها، وأنّ وجوبها ناشٍ عن وجوبه، وبعبارةاُخرى وجوبه يسري إليها.
ويردّه أنّ القول بالترشّح والسريان بمعنى العلّيّة كما هو ظاهره ممنوع،ضرورة أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ليست علّةً للإرادة المتعلّقة بالمقدّمةبحيث تتحقّق قهراً بمجرّد تحقّقها، بل كلّ واحدة منهما ناشئة عن مباديهالخاصّة بها، وكذلك وجوب المقدّمة ليس معلولاً لوجوب ذيها، بل كلّ منهممعلول للإرادة المتعلّقة به.
ج2
والملازمة بين الإرادتين أو بين الوجوبين عند القائلين بها ليست بمعنىالعلّيّة بحيث لو أراد المولى ذا المقدّمة لتحقّقت منه إرادة قهريّة متعلّقة بالمقدّمة،ولو أوجبه لوجبت قهراً وبدون اختياره، بل بمعنى أنّ العقل يكشف عن أنّالمولى حينما يريد شيئاً يتوقّف على شيء آخر، يريد ذلك الشيء الآخرالمتوقّف عليه أيضاً بإرادة مسبوقة بمباديها، من تصوّره والتصديق بفائدتهوغيرهما. نعم، فائدة ذي المقدّمة أصليّة، بخلاف فائدة المقدّمة، إذ فائدتها هيالوصول إلى ذي المقدّمة، والملازمة بين الوجوبين أيضاً تكون بمعنىاستكشاف العقل عن أنّ المولى إذا أوجب شيئاً أوجب مقدّمته أيضاً بإرادتهواختياره.
وملاك حكم العقل بالملازمة عند القائلين بها هو توقّف ذي المقدّمة علىمقدّمته، وكما أنّ هذا الملاك موجود عند وجوب ذي المقدّمة بالفعل بالنسبةإلى مقدّمته المقدورة في ظرفه، كذلك هو موجود عند عدم وجوبه فعلاً لعدمتحقّق شرطه بعدُ بالنسبة إلى المقدّمة المقدورة قبل ظرف وجوبه غير المقدورةفيه، سيّما إذا كان شرط الوجوب مقطوع الوقوع، فلو فرض أنّا نقدر علىالوضوء قبل وقت الصلاة ولا نتمكّن منه بعده، وفرض أنّ الوضوء شرطمنحصر لا يتبدّل عند العجز عنه إلى التيمّم فحينئذٍ يجب تحصيله قبل دخولالوقت، ولا يجوز تركه معتذراً بأنّ الوقت لمّا يدخل، فلا تجب الصلاة كي يجبالوضوء، فإنّ ما ذكر من ملاك حكم العقل بالملازمة موجود هاهنا أيضاً.
والحاصل: أنّ تحصيل المقدّمات المفوّتة واجب على المكلّف قبل وجوبذيها من دون أن يتوجّه إشكال على المشهور في الواجب المشروط.
الواجب المنجّز والمعلّق
(صفحه288)
ومنها: تقسيمه إلى المنجّز والمعلّق:في الواجب المنجّز والمعلّق
قال في الفصول: وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف وليتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسمّ منجّزاً، وإلى ما يتعلّقوجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّقبالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقّف فعله على مجيءوقته(1)، وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هوأنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل(2)، إنتهى كلامه.
واستشكل على هذا التقسيم تارةً بأنّه مستحيل بحسب مقام الثبوت،واُخرى بعدم لزوم الالتزام به بحسب مقام الإثبات، لعدم ترتّب أثر عليه، وإنكان ممكناً ثبوتاً.
فنذكر جميع ما قيل أو يمكن أن يُقال حول كلام صاحب الفصول فيمقامين:
المقام الأوّل: في امكان الواجب المعلّق واستحالته
ذهب جمع من المحقّقين منهم الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رحمهالله في حاشيةالكفاية إلى استحالة الواجب المعلّق، وقبل البحث حول كلامه ينبغي توجيهالوجدان إلى الأوامر العقلائيّة ليتّضح أنّ تعلّق الإيجاب الفعلي بأمر استقباليهل هو مستحيل وجداناً أو ممكن، فنقول:
إنّا حينما نلاحظ الإرادة التكوينيّة الفاعليّة والتشريعيّة الآمريّة لا نرى منعفي تعلّق الإرادة الفعليّة بمراد استقبالي، ولا في صدور أمر فعلي متعلّق بمأمور
- (1) فالحجّ عند صاحب الفصول واجب مشروط بالنسبة إلى الاستطاعة أو خروج الرفقة، ومعلّق بالنسبة إلىمجيء وقته. م ح ـ ى.
ج2
به استقبالي، ضرورة أنّا قد نريد القيام والقعود وتحريك اليد ونحوها، فيكونالإرادة والمراد كلاهما حاليّين، وقد نريد أن نأتي بالصلاة بعد حلول وقتها، أونسافر غداً، أو نصوم في شهر رمضان الذي يأتي بعد ستّة أشهر مثلاً، فتعلّقتالإرادة الحاليّة بمراد استقبالي، ولا يمكن القول بخلوّ صفحة أنفسنا من الإرادةفي هذه الموارد قبل حلول ظرف المراد، ضرورة أنّا نجد الفرق بيننا وبينالكفّار في أنّهم لا يريدون الصيام في رمضان الآتي ونحن نريده، ولا يمكنالقول بأنّه لا فرق بيننا وبينهم الآن وسيتحقّق الفرق بعد حلول شهر رمضان.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الإرادة الآمريّة، فإنّ المولى تارةً يقول لعبده:«ادخل السوق واشتر اللحم» فتعلّق الوجوب الفعلي بأمر حالي فوري،واُخرى يقول له: «سافر إلى البصرة غداً» فتعلّق الوجوب الحالي بأمراستقبالي، ولا يمكن القول بأنّ وجوب المسافرة أمر استقبالي كنفسها، لأنّا نجدالفرق بينه وبين قوله: «إن جائك زيد فأكرمه» فإنّ الوجدان يقضي بأنّوجوب المسافرة في المثال الأوّل حالي ووجوب الإكرام في المثال الثانياستقبالي مقيّد بمجيء زيد.
وبالجملة: قول المولى لعبده: «سافر إلى البصرة غداً» ليس من قبيلالواجب المشروط، بل من قبيل الواجب المطلق الذي وجوبه حالي وواجبهاستقبالي، وهذا هو الذي نعبّر عنه بالواجب المعلّق وليس بمستحيل عندالوجدان والعقلاء.
كلام المحقّق الاصفهاني في الواجب المعلّق
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق الاصفهاني ذهب في الحاشية إلى استحالته،وعمّم البحث فقال بامتناع تعلّق الإرادة ـ سواء كانت تكوينيّة أو تشريعيّة
(صفحه290)
بأمر استقبالي وتكلّم في كلّ منهما ببحث مستقلّ، فقال في الإرادة التكوينيّة:
إنّ الإرادة عبارة عن «الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد».
توضيح ذلك: أنّ للنفس منازل ومراتب، ويسمّى كلّ مرتبة باسم خاصّ،فيعبّر عن إحدى درجاتها بالشوق، وهو يتّصف بالشدّة والضعف والنقصوالكمال، فإذا كان الشيء المراد الذي تعلّق به الشوق مبتلى بمانع لا يقدر المريدعلى إزالته يقف الشوق ولا يتأكّد ولا يرتقي إلى الدرجة التي يُقال لها الإرادة،وإن لم يكن للمراد مانع أصلاً، أو كان ولكنّ المريد يقدر على إزالته يرتقيالشوق شيئاً فشيئاً إلى درجة يقال لها الإرادة والقصد.
ثمّ إذا وصل الشوق إلى هذا الحدّ يؤثّر في قوّة اُخرى نفسانيّة يعبّر عنهبالقوّة العاملة، وهي قوّة منبثّة في جميع الأعضاء والجوارح، فالشوق المؤكّدالذي يحرّك القوّة العاملة نحو المراد هو الذي يسمّى بالإرادة، فلا يمكن القولبتحقّقها من دون تحرّك العضلات نحوه، وهذا الذي التزم به من أجاز تعلّقالإرادة التكوينيّة بأمر استقبالي، فمن أراد فرضاً اليوم أن يسافر غداً فأينتأثير القوّة الشوقيّة الآن في القوّة العاملة وأين تأثّر العضلات وتحرّكها نحوالمراد في اليوم؟!
وبالجملة: الإرادة هي التي تحرّك العضلات نحو المراد فوراً، ولأجله قالوا:هي الجزء الأخير للعلّة التامّة، فإذا تحقّقت ولم يتحقّق المراد فهل هذا إلانفكاك العلّة التامّة عن المعلول؟!
إن قلت: لعلّ المعلول هاهنا مقيّد بالتأخّر ذاتاً، فليس المعلول في المثالالمتقدّم مطلق «المسافرة» بل «المسافرة في الغد»، فإذا كان كذلك فلابدّ من أنيتحقّق متأخّراً عن علّته وإلاّ فلم يكن معلولاً.
قلت: فساد هذا الكلام أوضح من سابقه، لأنّ دخل التأخّر في ذات المعلول