ج2
الاعتباري، والثانية: لا تدلّ إلاّ على نفس ماهيّة المادّة كما عرفت آنفاً عندالتكلّم حول دليل صاحب الفصول، والماهيّة غير الإيجاد والوجود، كما بيّن فيالفلسفة، فحيث إنّ الهيئة والمادّة لا تدلاّن على الإيجاد فلا يصحّ القول بكونمفاد قولنا: «اضرب» طلب إيجاد الضرب.
لا يقال: فكيف لا يتحقّق الامتثال إلاّ بالإيجاد؟
فإنّه يقال: مقام الامتثال غير مقام تعلّق التكليف، فإنّ التكليف يتعلّقبماهيّة المادّة، والامتثال لا يتحقّق إلاّ بإيجادها.
وثانياً(1): الإيجاد الذي هو جزء مدلول الهيئة فرضاً معنى حرفيّ غيرمستقلّ ذهناً ولا خارجاً ولا دلالةً، فهو ملحوظ آلةً، فإن قيّد بالمرّة أوالتكرار فلابدّ من لحاظه مستقلاًّ، والجمع بين لحاظين مختلفين في استعمالواحد ممتنع.
لا يقال: فكيف ذهبتم إلى رجوع القيود إلى الهيئة في مثل قولنا: «ضربتزيداً يوم الجمعة»؟
فإنّه يقال: نعم، «يوم الجمعة» في المثال قيد للهيئة، وهي صدور الضربمن المتكلّم في الزمن الماضي، لكنّها ملحوظة ابتداءً بلحاظ آلي، ثمّ إذا وصلالمتكلّم إلى كلمة «يوم الجمعة» لاحظها بلحاظ آخر استقلالي وقيّدها بـ «يومالجمعة»، فاللحاظان مختلفان من حيث الزمان، بخلاف قولنا: «اضرب»، فإنّالهيئة فيه لو كانت مقيّدة بقيد مستفاد من نفسه لكانت ملحوظة في زمن واحدبلحاظين: أحدهما آلي والآخر استقلالي، لعدم انفصال القيد هنا كما في المثالالمتقدّم.
- (1) هذا ما أجاب به الإمام رحمهالله عن الإشكال، وأمّا الجواب الأوّل فهو كان لشيخنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» دفاععنه قدسسره . م ح ـ ى.
(صفحه152)
نعم، لو كان المرّة والتكرار مذكورين في الكلام منفصلين، كأن يقال:«اضرب مرّةً» أو «اضرب مكرّراً» لرجع القيد إلى الهيئة بلا إشكال، لتعدّدزمن اللحاظين، كما في قولنا: «ضربت زيداً يوم الجمعة».
إن قلت: إنّ ذلك إنّما يرد لو كانت الهيئة موضوعة للبعث نحو الإيجاد المتقيّدبالمرّة أو التكرار حتّى يستلزم تقييد المعنى الحرفي وقت لحاظه آليّاً، وأمّا إذقلنا بأنّها موضوعة للبعث نحو الإيجاد أو الإيجادات بالمعنى الحرفي فلا إشكالفيه، لعدم تقييد المعنى الحرفي، وإن شئت قلت: كما يجوز استعمال اللفظ في أكثرمن معنى يجوز وضعه لكثرات واستعماله فيها.
قلت: ما ذكرت أمر ممكن، ولكنّه خلاف الوجدان والارتكاز في الأوضاع،لشهادة الوجدان بأنّه ليس لنا لفظ وضع للأفراد والكثرات من حقيقة واحدة،فلا محيص في معقوليّة النزاع إمّا عن القول بإرجاع القيود المتنازع فيها فيالمقام إلى نفس المادّة، بأن يقال: إنّ لمادّة الأمر(1) وضعاً على حدة غير وضعالمادّة في سائر الصيغ، فإذن نشك في أنّ ما وضعت له هل هو الماهيّة المقيّدةبقيد الوحدة، أو بقيد التكرار، أو نفس الماهيّة بدون أيّ قيد، أو القول بأنّلصيغة الأمر(2)، أي للمجموع من هيئتها ومادّتها وضعاً مستقلاًّ، والقيد يرجعإلى ما وضع هذا المجموع، لكن بلحاظ جزئه المادّي لا الصوري(3).
هذا حاصل كلام الإمام قدسسره في المقام بتوضيح منّا.
واستدلاله على عدم معقوليّة كون النزاع في الهيئة وإن كان جيّداً،لكنّ النتيجة التي رتّبها عليه بقوله: فلا محيص في معقوليّة النزاع إمّعن القول بإرجاع القيود إلى المادّة أو إلى مجموع الصيغة، موهونة جدّاً،
- (1) وكذا لمادّة النهي، فإنّ بحث المرّة والتكرار يجري في النهي أيضاً، كما سيأتي. منه مدّ ظلّه.
- (2) وكذا لصيغة النهي، فإنّ هذا البحث يجري فيه أيضاً، كما سيأتي. منه مدّ ظلّه.
- (3) تهذيب الاُصول 1: 237.
ج2
سيّما الشقّ الأوّل منها، للاتّفاق على أنّ معنى المادّة في جميع المشتقّات واحد،فكيف نقول: إنّ لمادّة الأمر وضعاً على حدة غير وضع مادّة سائر المشتقّاتوالصيغ؟!
فلعلّ الالتزام بشقّها الثاني أهون، واللّه العالم بحقائق الاُمور.
الجهة الثانية: أنّ المراد بالمرّة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفردوالأفراد؟
يؤيّد الأوّل ظهور نفس لفظي المرّة والتكرار فيه، والثاني أنّ هذا البحثكان ناشئاً عن أنّ الاُصوليّين رأوا كفاية الإتيان بفرد واحد طول العمر فيبعض الواجبات، كحجّة الإسلام، ولزوم الإتيان بأفراد متعدّدة في بعضهالآخر، كالصلاة والصوم، فشكّوا فيما إذا لم يرد من قبل الشارع دليل علىأحدهما، فاختلفوا في أنّ الصيغة المجرّدة عن القرينة تقتضي المرّة أو التكرار أولا تقتضي واحداً منهما.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محلّ النزاع، وإنكان لفظهما ظاهراً في المعنى الأوّل(1).
ما اختاره صاحب الفصول في المسألة
وذهب صاحب الفصول إلى أنّ النزاع لا يكون إلاّ في المعنى الأوّل، لأنّه لواُريد بالمرّة والتكرار الفرد والأفراد لكان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذالبحث تتمّة للبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد، فيقال
(صفحه154)
عند ذلك: وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّدأو لا يقتضي شيئاً منهما، ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه، وأمّلو اُريد بهما الدفعة والدفعات فلا علقة بين المسألتين، فإنّ للقائل بأنّ الأمريتعلّق بالطبيعة أن يقول بأنّه للمرّة أو التكرار، بمعنى أنّه يقتضي وجوبإيجادها مرّة واحدة أو مراراً بالمعنى الذي سبق، وأن لا يقول بذلك، وكذالقائل بأنّه يتعلّق بالفرد دون الطبيعة، إذ ليس المراد به الفرد الواحد، بل مطلقالفرد(1)، إنتهى.
الكلام حول نظريّة صاحب الفصول في المقام
وردّه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّه لا علقة بين المسألتين لو اُريد بهما الفردوالأفراد أيضاً، فإنّ الطلب(2) على القول بالطبيعة إنّما يتعلّق بها باعتباروجودها في الخارج، ضرورة أنّ «الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي» لمطلوبة ولا غير مطلوبة، ولهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار بكلالمعنيين، فيصحّ النزاع في دلالة الصيغة على المرّة والتكرار بالمعنيين وعدمها،أمّا بالمعنى الأوّل فواضح، وأمّا بالمعنى الثاني فلوضوح أنّ المراد من الفرد أوالأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنّما عبّر بالفرد، لأنّ وجود الطبيعة فيالخارج هو الفرد، غاية الأمر خصوصيّته وتشخّصه على القول بتعلّق الأمربالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلّقه بالأفراد، فإنّه ممّيقوّمه(3).
- (2) التعبير بالطلب مبنيّ على ما ذهب إليه من أنّ مفاد هيئة الأمر هو الطلب، وإن كان المناسب لما اخترناه منكون مفادها البعث والتحريك الاعتباري هو التعبير بالبعث والتحريك. منه مدّ ظلّه.
ج2
إنتهى كلامه.
وحاصله: أنّ القائل بالطبيعة في تلك المسألة قائل بتعلّق الأمر والطلببوجودها، والمراد بالفرد والأفراد في المقام أيضاً هو الوجود الواحدوالوجودات المتعدّدة، والقائل بالطبيعة هناك لو قال بالمرّة مثلاً هاهنا لكانمعناه أنّ الفرد الواحد بما هو وجود الطبيعة مطلوب المولى، مع قطع النظر عنخصوصيّاته وتشخّصاته الفرديّة، وأمّا القائل بتعلّق الأمر بالأفراد في تلكالمسألة لو قال بالمرّة هاهنا لكان معناه أنّ الفرد الواحد مع ملاحظة جميعخصوصيّاته الفرديّة مطلوبه، وقس عليه القول بالتكرار.
أقول: ما ذهب إليه من أنّ الطلب على القول بالطبيعة إنّما يتعلّق بوجودهوإن كان صحيحاً، إلاّ أنّ ما استدلّ به عليه ـ من قول الفلاسفة: «الماهيّة منحيث هي ليست إلاّ هي» بتقريب دلالته على أنّ الماهيّة لا تكون مطلوبة ولغير مطلوبة ـ باطل، لأنّ مرادهم أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هيبالحمل الأوّلي(1)، لا بالحمل الشائع، والمقام من قبيل الثاني، لأنّا لا ندّعي أنّالمطلوبيّة جزء ماهيّة الصلاة مثلاً، بل نقول بأنّ الصلاة مصداق من مصاديقمطلوب المولى ومتّحدة معه خارجاً.
وبالجملة: تعلّق الطلب بالطبيعة يكون مثل عروض البياض للجسم، فكمنقول: الجسم أبيض، بلحاظ عروض البياض له، نقول أيضاً: الصلاة مطلوبة،بلحاظ تعلّق الطلب بها، ولا ندّعي أنّ الطلب دخيل في ماهيّتها، كما لا يدّعيأحد أنّ البياض دخيل في ماهيّة الجسم، فلا يصحّ التمسّك بقول الفلاسفة:
- (1) ملاك الحمل الأوّلي عند بعض هو الاتّحاد بين الموضوع والمحمول من حيث الماهيّة، وعند بعضآخر من حيث الماهيّة والمفهوم كليهما، وتظهر ثمرة النزاع في قولنا: «الإنسان حيوان ناطق»، فإنّ الحملفيه أوّلي على الأوّل دون الثاني، إذ ما يفهم من «الإنسان» غير ما يفهم من «الحيوان الناطق» عند من ليشوب ذهنه بالقواعد المنطقيّة وأنّ المحمول في هذه القضيّة جنس وفصل للموضوع. منه مدّ ظلّه.