ج2
سيّما الشقّ الأوّل منها، للاتّفاق على أنّ معنى المادّة في جميع المشتقّات واحد،فكيف نقول: إنّ لمادّة الأمر وضعاً على حدة غير وضع مادّة سائر المشتقّاتوالصيغ؟!
فلعلّ الالتزام بشقّها الثاني أهون، واللّه العالم بحقائق الاُمور.
الجهة الثانية: أنّ المراد بالمرّة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفردوالأفراد؟
يؤيّد الأوّل ظهور نفس لفظي المرّة والتكرار فيه، والثاني أنّ هذا البحثكان ناشئاً عن أنّ الاُصوليّين رأوا كفاية الإتيان بفرد واحد طول العمر فيبعض الواجبات، كحجّة الإسلام، ولزوم الإتيان بأفراد متعدّدة في بعضهالآخر، كالصلاة والصوم، فشكّوا فيما إذا لم يرد من قبل الشارع دليل علىأحدهما، فاختلفوا في أنّ الصيغة المجرّدة عن القرينة تقتضي المرّة أو التكرار أولا تقتضي واحداً منهما.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محلّ النزاع، وإنكان لفظهما ظاهراً في المعنى الأوّل(1).
ما اختاره صاحب الفصول في المسألة
وذهب صاحب الفصول إلى أنّ النزاع لا يكون إلاّ في المعنى الأوّل، لأنّه لواُريد بالمرّة والتكرار الفرد والأفراد لكان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذالبحث تتمّة للبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد، فيقال
(صفحه154)
عند ذلك: وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّدأو لا يقتضي شيئاً منهما، ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه، وأمّلو اُريد بهما الدفعة والدفعات فلا علقة بين المسألتين، فإنّ للقائل بأنّ الأمريتعلّق بالطبيعة أن يقول بأنّه للمرّة أو التكرار، بمعنى أنّه يقتضي وجوبإيجادها مرّة واحدة أو مراراً بالمعنى الذي سبق، وأن لا يقول بذلك، وكذالقائل بأنّه يتعلّق بالفرد دون الطبيعة، إذ ليس المراد به الفرد الواحد، بل مطلقالفرد(1)، إنتهى.
الكلام حول نظريّة صاحب الفصول في المقام
وردّه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّه لا علقة بين المسألتين لو اُريد بهما الفردوالأفراد أيضاً، فإنّ الطلب(2) على القول بالطبيعة إنّما يتعلّق بها باعتباروجودها في الخارج، ضرورة أنّ «الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي» لمطلوبة ولا غير مطلوبة، ولهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار بكلالمعنيين، فيصحّ النزاع في دلالة الصيغة على المرّة والتكرار بالمعنيين وعدمها،أمّا بالمعنى الأوّل فواضح، وأمّا بالمعنى الثاني فلوضوح أنّ المراد من الفرد أوالأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنّما عبّر بالفرد، لأنّ وجود الطبيعة فيالخارج هو الفرد، غاية الأمر خصوصيّته وتشخّصه على القول بتعلّق الأمربالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلّقه بالأفراد، فإنّه ممّيقوّمه(3).
- (2) التعبير بالطلب مبنيّ على ما ذهب إليه من أنّ مفاد هيئة الأمر هو الطلب، وإن كان المناسب لما اخترناه منكون مفادها البعث والتحريك الاعتباري هو التعبير بالبعث والتحريك. منه مدّ ظلّه.
ج2
إنتهى كلامه.
وحاصله: أنّ القائل بالطبيعة في تلك المسألة قائل بتعلّق الأمر والطلببوجودها، والمراد بالفرد والأفراد في المقام أيضاً هو الوجود الواحدوالوجودات المتعدّدة، والقائل بالطبيعة هناك لو قال بالمرّة مثلاً هاهنا لكانمعناه أنّ الفرد الواحد بما هو وجود الطبيعة مطلوب المولى، مع قطع النظر عنخصوصيّاته وتشخّصاته الفرديّة، وأمّا القائل بتعلّق الأمر بالأفراد في تلكالمسألة لو قال بالمرّة هاهنا لكان معناه أنّ الفرد الواحد مع ملاحظة جميعخصوصيّاته الفرديّة مطلوبه، وقس عليه القول بالتكرار.
أقول: ما ذهب إليه من أنّ الطلب على القول بالطبيعة إنّما يتعلّق بوجودهوإن كان صحيحاً، إلاّ أنّ ما استدلّ به عليه ـ من قول الفلاسفة: «الماهيّة منحيث هي ليست إلاّ هي» بتقريب دلالته على أنّ الماهيّة لا تكون مطلوبة ولغير مطلوبة ـ باطل، لأنّ مرادهم أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هيبالحمل الأوّلي(1)، لا بالحمل الشائع، والمقام من قبيل الثاني، لأنّا لا ندّعي أنّالمطلوبيّة جزء ماهيّة الصلاة مثلاً، بل نقول بأنّ الصلاة مصداق من مصاديقمطلوب المولى ومتّحدة معه خارجاً.
وبالجملة: تعلّق الطلب بالطبيعة يكون مثل عروض البياض للجسم، فكمنقول: الجسم أبيض، بلحاظ عروض البياض له، نقول أيضاً: الصلاة مطلوبة،بلحاظ تعلّق الطلب بها، ولا ندّعي أنّ الطلب دخيل في ماهيّتها، كما لا يدّعيأحد أنّ البياض دخيل في ماهيّة الجسم، فلا يصحّ التمسّك بقول الفلاسفة:
- (1) ملاك الحمل الأوّلي عند بعض هو الاتّحاد بين الموضوع والمحمول من حيث الماهيّة، وعند بعضآخر من حيث الماهيّة والمفهوم كليهما، وتظهر ثمرة النزاع في قولنا: «الإنسان حيوان ناطق»، فإنّ الحملفيه أوّلي على الأوّل دون الثاني، إذ ما يفهم من «الإنسان» غير ما يفهم من «الحيوان الناطق» عند من ليشوب ذهنه بالقواعد المنطقيّة وأنّ المحمول في هذه القضيّة جنس وفصل للموضوع. منه مدّ ظلّه.
(صفحه156)
«الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي» لإثبات عدم إمكان تعلّق الطلببالطبيعة، لأنّ الفلاسفة أرادوا أنّ الماهيّة في مقام ذاتها ليست إلاّ هي، ويسلبعنه في هذا المقام جميع ما لا دخل له في قوامها، وهذا لا ينافي اتّصافهبأوصاف خارجة عن حقيقة ذاتها محمولة عليها بالحمل الشائع الصناعيالذي ملاكه الاتّحاد في الوجود.
على أنّه لا فرق بين تعلّق الطلب بالماهيّة وتعلّق الوجود بها بالنسبةإلىالقاعدة الفلسفيّة المذكورة، لأنّ الماهيّة من حيث هي كما لا تكون مطلوبةولا غير مطلوبة، كذلك لا تكون موجودة ولا غير موجودة، كما اعترف بهالمحقّق الخراساني رحمهالله في مواضع اُخرى من كلامه، فقول الفلاسفة: «الماهيّة منحيث هي ليست إلاّ هي» لو سدّ طريق إضافة الطلب إلى الماهيّة لسدّ طريقإضافة الوجود إليها أيضاً، ولم ينحلّ إشكال تعلّق الطلب بالماهيّة بجعلالوجود واسطةً بينهما، كما فعل صاحب الكفاية رحمهالله .
فعلى هذا ماذا يدلّ على أنّ متعلّق الطلب أو البعث والتحريك هو الوجود؟
نسب إلى صاحب الفصول رحمهالله أنّه جزء مدلول الهيئة، فمفادها هو البعثوالتحريك الاعتباري إلى الوجود.
وفيه: أنّه لا دليل عليه في معجم من معاجم اللغة، إذ لا يستفاد منها أزيدمن البعث والتحريك الاعتباري.
والحقّ أنّ كون متعلّق الأمر هو الوجود يستفاد من طريق الدلالةالالتزاميّة العقليّة والعرفيّة، لا من طريق الدلالة الوضعيّة اللفظيّة.
توضيح ذلك: أنّك إذا أدخلت ابنك في الدار قهراً بالبعث الحقيقي، ثمّ قلت:«بعثت ابني إلى الدار» لم يكن في ألفاظ هذه الجملة من الوجود عين ولا أثر،ولكنّ العقل يفهم أنّ الذي تحقّق إنّما هو كون ابنك في الدار ووجوده فيها.
ج2
والأمر كذلك أيضاً بالنسبة إلى البعث والتحريك الاعتباري، فإنّه وإن كانأمراً اعتباريّاً، إلاّ أنّه لابدّ للاعتباريّات أيضاً من أساس تتعلّق به، ألا ترى أنّهلا يعتبر الملكيّة بدون المالك والمملوك، ولا الزوجيّة بدون الزوجين، فإذا قالالمولى مثلاً: «اضرب زيداً» فلا الهيئة تدلّ على وجود الضرب بالدلالة اللفظيّةولا المادّة، بل يفهم عقلاً، فإنّ العقل إذا لاحظه يحكم بأنّ المولى بعث عبده إلىإيجاد الضرب، بل العرف أيضاً يحكم بذلك.
والحاصل: أنّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني من أنّ القائلين بتعلّق الأوامربالطبائع أرادوا وجود الطبائع لا نفسها حقّ، لكن لا لما ذكره من القاعدةالفلسفيّة المتقدّمة، ولا لما نسب إلى صاحب الفصول من الدلالة الوضعيّةاللفظيّة، بل لأجل الدلالة الالتزاميّة العقليّة والعرفيّة كما تقدّم.
التحقيق حول دلالة الأمر على المرّة أو التكرار
وبذلك يظهر أنّه لا مجال للقول بدلالة صيغة «افعل» على المرّة أو التكرار،لأنّ كلام الاُصوليّين ظاهر في أنّ النزاع في الدلالة اللفظيّة حيث عنونوالبحث بأنّ «صيغة الأمر هل تدلّ على المرّة أو التكرار أم لا» فمحلّ النزاعبينهم إنّما هو الدلالة اللفظيّة الوضعيّة، مع أنّ المرّة والتكرار بمعنى الوجودالواحد والوجوداتالمتعدّدة، وقد عرفت أنّالصيغة لا تدلّ على أصل الوجود،لا بمادّتها ولا بهيئتها، فضلاً عن دلالتها على وصفه، أعني قيد الوحدة والتعدّد.
إن قلت: نعم، ولكن يمكن التمسّك بحكم العقل لإثبات المرّة أو التكرار ـ كمتمسّكنا به لإثبات أصل الوجود ـ وإن كان خارجاً عن مورد نزاع الاُصوليّين،لما عرفت من أنّهم يتنازعون في الدلالة الوضعيّة اللفظيّة لا في الدلالةالالتزاميّة العقليّة.