ج2
وأمّا بناءً على ما ذكره صاحب الفصول فـ «الاقتضاء» بمعنى الدلالة،فيكون المعنى أنّ الأمر بالشيء هل يدلّ على أنّ المكلّف إذا أتى بالمأمور به ليجب عليه الإعادة والقضاء أم لا؟
والدلالات اللفظيّة ثلاثة على ما قال به المنطقيّون: المطابقة، والتضمّن،والالتزام.
ولا ريب في انتفاء الاُولى في المقام، ضرورة أنّا حينما نسمع قوله تعالى:«أَقِيمُوا الصَّلاةَ»(1) مثلاً لا يتبادر إلى أذهاننا أنّ المخاطبين إذا أتوا بالصلاةعلى وجهها لا يجب عليهم الإعادة والقضاء، فأين الدلالة المطابقيّة؟
على أنّه تقدّم أنّ صيغة «افعل» تدلّ على الوجوب، ولو كان ما جاء فيعنوان الفصول تمام مدلولها للزم خروج الوجوب عن المدلول رأساً.
وأمّا الثانية ـ أعني الدلالة التضمّنية ـ فيرد عليها أيضاً الإشكال الأوّل،وهو عدم تبادر ما ذكره صاحب الفصول بما أنّه جزء المدلول، ضرورة أنّقوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» مثلاً لا يدلّ إلاّ على وجوب إقامة الصلاة، وأمّمسألة أنّ المكلّف إذا أتى بها لا يجب عليه الإعادة والقضاء فهي أجنبيّة عنمدلول الآية.
وأمّا الالتزام فيمكن توجيهه بأنّ الصيغة تدلّ بالدلالة الالتزاميّة علىوجود مصلحة في المأمور به، والعقل يستقلّ بأنّ المكلّف إذا أتى به بجميعأجزائه وشرائطه حصّل تلك المصلحة، فلا يجب عليه الإعادة والقضاء، فيتمّالمطلوب، وهو دلالة الأمر على الإجزاء بالدلالة اللفظيّة الالتزاميّة.
ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ بعض الناس كالأشاعرة ينكرون كون الأمروالنهي تابعين للمصلحة والمفسدة الموجودتين في المأمور به والمنهي عنه، بل
(صفحه176)
القائلون به أيضاً لا يقولون به في جميع الموارد، ألا ترى أنّ صاحب الكفاية رحمهالله قال: قد لا تكون في متعلّق الأمر مصلحة، ولا في متعلّق النهي مفسدة، بلالمصلحة في نفس الأمر والنهي، كالأوامر الاختباريّة والاعتذاريّة(1).
وثانياً: أنّهم اختلفوا في أنّ الدلالة الالتزاميّة اللفظيّة هل هي مختصّة بمإذا كان اللزوم بيّناً بالمعنى الأخصّ، أي الذي يلزم فيه تصوّر اللازمبمجرّد تصوّر الملزوم(2)، أو تعمّ البيّن بالمعنى الأعمّ أيضاً، وهو الذيينتقل فيه الذهن إلى الملازمة بعد تصوّر اللازم والملزوم كليهما، والمقام علىفرض تحقّق الملازمة من قبيل الثاني، أعني اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، إذ لينتقل أذهاننا إلى الملازمة بين الأمر وبين المصلحة الواقعة في متعلّقه إلاّ بعدتصوّر كليهما، وقد عرفت أنّهم اختلفوا في كونه من مصاديق الدلالة اللفظيّةالالتزاميّة.
والحاصل: أنّ الصحيح ما اختاره المحقّق الخراساني رحمهالله في عنوان المسألة،وإن كان خارجاً عن مباحث الألفاظ.
تحرير محلّ النزاع
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ تحقيق المقام يستدعي الكلام في موضعين:
- (1) الأمر الاختباري: ما كان الداعي إلى صدوره مجرّد اختبار العبد بأنّه هل هو مطيع أو عاصٍ، من دون أنيكون في متعلّقه مصلحة أصلاً، كما في أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهماالسلام .
إن قلت: الاختبار صحيح بالنسبة إلى الموالي العرفيّة، لا بالنسبة إلى اللّه العليم بذات الصدور.
قلت: مضافاً إلى أنّ المناقشة في المثال ليست من دأب المحصّلين، إنّ الاختبار تارةً يكون لأجل استعلامالمولى المختبر، واُخرى بداعي تبيّن حال العبد للناس، كي يعلموا بلياقته لتقبّل المناصب الإلهيّة مثلاً،ويكون اُسوةً لهم في التسليم والانقياد في قبال أوامر المولى، كما في قصّة إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام .
والأمر الاعتذاري: ما كان الداعي إلى صدوره اعتذار المولى في عقوبة عبده، كما إذا كان له عبد عاصٍيؤذيه كثيراً، فيريد عقوبته، وليس له مبرّر بحسب الظاهر، فيأمره بعمل ليس فيه مصلحة أصلاً، لكنّه يعلمأنّ العبد لا يمتثله، فيصير مبرّراً لعقوبته. م ح ـ ى.
- (2) كما في لوازم الماهيّة. منه مدّ ظلّه.
ج2
الأوّل: أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو بالأمرالظاهري(1) هل يقتضي الإجزاء عن التعبّد بنفس ذلك الأمر ثانياً أم لا؟
وبعبارة أخصر وأجمل: الإتيان بالمأمور به بكلّ أمر هل يقتضي الإجزاءبالنسبة إلى نفس ذلك الأمر أم لا؟
الثاني: أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري هل يقتضيالإجزاء عن التعبّد بالأمر الاختياري أو الواقعي أم لا؟ فلو قلنا بالإجزاء فليجب على من صلّى متيمّماً لفقد الماء أن يعيد صلاته في الوقت أو يقضيهخارجه بالطهارة المائيّة بعد وجدان الماء، وكذا لا يجب على من صلّى الجمعةفي يومها متمسّكاً بخبر موثّق دالّ على وجوبها أو باستصحاب الوجوب أنيصلّي الظهر أداءً في الوقت، وقضاءً خارجه بعد كشف الخلاف وعلمه بأنّصلاة الظهر كانت واجبةً لا الجمعة، وأمّا لو قلنا بعدم الإجزاء لوجب عليهالإعادة والقضاء بعد وجدان الماء في الصورة الاُولى، وصلاة الظهر أداءً أوقضاءً بعد كشف الخلاف في الصورة الثانية.
والفرق بين الموضعين من وجهين:
1ـ أنّ الموضع الأوّل من هذا البحث يعمّ الأوامر الثلاثة: الواقعيالاختياري، والواقعي الاضطراري، والظاهري، بخلاف الموضع الثاني، فإنّهمختصّ بالقسمين الأخيرين ولا يعمّ الأمر الواقعي الاختياري كما هو واضح.
2ـ أنّ البحث في الموضع الأوّل عقليّ، فإنّ العقل هو الذي يحكم بأنّالإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء عن التعبّد بأمره ثانياً أو لا يقتضي، بخلافالموضع الثاني، إذ لا مجال للعقل بأن يحكم ـ بعد رفع العذر ـ بوجوب الإعادة
- (1) تثليث الأوامر ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله وسيأتي التحقيق فيه في المقدّمة الخامسة ص191.م ح ـ ى.
(صفحه178)
والقضاء أو عدم وجوبهما فيما إذا صلّى المكلّف متيمِّماً، وكذا فيما إذا انكشفتمخالفة الأمارة أو الأصل للواقع، بل لابدّ هاهنا من ملاحظة دليل الأمرالاضطراري، كقوله عليهالسلام : «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» ودليلحجّيّة الأمارات، كجملة «صدّق العادل» مثلاً الدالّة على حجّيّة خبر الواحد،ودليل حجّيّة الاستصحاب، كقوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وملاحظةأنّ هذه الأدلّة هل تدلّ على أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريوالظاهري يقتضي الإجزاء عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاختياريوالواقعي أم لا؟
فالبحث في الموضع الثاني لفظيّ لملاحظة الأدلّة اللفظيّة فيه.
والعنوان الجامع لكلا الموضعين هو قولنا: «الإتيان بالمأمور به على وجهههل يقتضي الإجزاء أم لا» كما عبّر به صاحب الكفاية، فلا يحتاج كلّ واحدمنهما إلى عنوان من البحث مختصٍّ به.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ المهمّ في مبحث الإجزاء إنّما هو الموضع الثاني منه، وأمّالموضع الأوّل فلا ريب ولا خلاف بيننا في الإجزاء فيه، لاتّفاق الكلّ على أنّالإتيان بالمأمور به بكلّ أمر يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى نفس ذلك الأمر. نعم،خالفنا فيه بعض الأشاعرة.
إن قلت: إذا كان المهمّ في هذا البحث هو الموضع الثاني فقط، وتقدّم أنّهبحث لفظيّ لا عقليّ فلعلّ المناسب له هو العنوان المذكور في «الفصول» لا مفي «الكفاية»، لما تقدّم من كون ما ذكره صاحب الفصول مربوطاً بمباحثالألفاظ دون ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله .
قلت: كلاّ، فإنّ صاحب الفصول جعل البحث في دلالة صيغة الأمر علىالإجزاء، وما تقدّم منّا بالنسبة إلى الموضع الثاني إنّما هو لفظيّة النزاع بلحاظ
ج2
كون البحث فيه عن مقدار دلالة دليل اعتبار الأمر الاضطراري أو الظاهري،لا عن مقدار دلالة نفس الأمر، فاللفظ الذي في كلامه مغاير للفظ الذي نحنأردناه.
إذا عرفت هذا فلا بأس بتقديم اُمور قبل الخوض في تفصيل المقام تبعللمحقّق الخراساني رحمهالله .
بيان المراد من «وجهه»
أحدها: الظاهر ـ كما قال صاحب الكفاية ـ أنّ المراد من «وجهه» فيالعنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك ا لنهج شرعاً وعقلاً مثل أنيؤتى به بقصد التقرّب في العبادة.
لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً، فإنّه عليه يكون «علىوجهه» قيداً توضيحيّاً، وهو بعيد(1).
وأمّا استشكاله عليه بقوله: «مع أنّه يلزم خروج التعبّديّات عن حريمالنزاع بناءً على المختار كما تقدّم من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلاً،لا من قيود المأمور به شرعاً»(2) فلا يتمّ.
لأنّ أوّل من قال باستحالة أخذ قصد القربة في المأمور به هو الشيخالأعظم الأنصاري رحمهالله ، وتبعه في ذلك تلامذته منهم المحقّق الخراساني رحمهالله ، وأمّمن تقدّم على الشيخ من الاُصوليّين فاعتقدوا بأنّ قصد التقرّب من قيودالمأمور به شرعاً، فكيف يصحّ الاستدلال على أنّ المراد من «وجهه» فيعنوان البحث ما ذكره، لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً بأنّه