ج2
الحكومة في مورد لأجل مانع خاصّ لا يوجب عدم تحقّقها في مورد آخرفاقد للمانع، بدعوى أنّها لو تحقّقت لتحقّقت في كليهما لاشتراكهما في الملاك، فإنّعدم تأثير الملاك في مورد لمانع لا يوجب عدم تأثيره فيما لا مانع فيه.
هذا تمام الكلام في أصالة الطهارة، وتبيّن أنّها مقتضية للإجزاء.
فيما يقتضيه أصالة الحلّيّة في المقام
ويجري جميع ما سبق فيها في أصالة الحلّيّة أيضاً(1)، ضرورة أنّها أيضحاكمة على مثل دليل مانعيّة أجزاء ما لا يؤكل لحمه للصلاة، فإذا شككنا فيكون ثوب من أجزاء ما يحلّ أكله أو يحرم، فأجرينا فيه أصالة الحلّيّة وصلّينفيهثمّانكشف كونه منأجزاء حيوانمحرّمالأكل كانتالصلاة صحيحةبالتقريبالمتقدّم في قاعدة الطهارة وحكومتها على دليل الشرطيّة طابق النعل بالنعل.
نعم، نتيجة الحكومة في قاعدة الطهارة كانت توسعة دائرة دليل الشرطيّة،وفي أصالة الحلّيّة تضييق دائرة دليل المانعيّة كما هو واضح(2).
والحاصل: أنّ هذه القاعدة أيضاً مقتضية للإجزاء مثلها.
حول الإجزاء في موارد البراءة العقليّة
بخلاف أصالة البراءة العقليّة، فإنّ مدركها إنّما هو قبح العقاب بلا بيان، فلو
- (1) فاعلم أنّ مدركها على المشهور قوله عليهالسلام ـ في وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبوابما يكتسب به، الحديث 4 ـ «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه»، لكن ذهب المحقّقالخراساني رحمهالله ـ في الكفاية: 452 ـ إلى أنّ المغيّى في هذه الرواية يدلّ على الحكم الواقعي والغاية علىالاستصحاب، بخلاف المشهور، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الغاية قيد للموضوع، فيكون معنى الرواية «كلّ شيءشكّ في حلّيّته وحرمته فهو لك حلال» فهي بصدد جعل حلّيّة ظاهريّة فيما شكّ في حكمه الواقعي، ولارتباط لها بالاستصحاب ولا بالحكم الواقعي. منه مدّ ظلّه.
- (2) وهذا هو المناسب لغرض جعل هاتين القاعدتين ـ وهو التسهيل على الاُمّة ـ فإنّ التسهيل يقتضيتوسعة دائرة دليل الشرطيّة وتضييق دائرة دليل المانعيّة كما لا يخفى. منه مدّ ظلّه.
(صفحه216)
شككنا في جزئيّة السورة مثلاً للصلاة وتركناها وكانت في الواقع جزءً لهفالعقل يحكم بكوننا معذورين في تركها، لأنّ العقاب بلا بيان قبيح، وأمّوجوب الإعادة أو القضاء بعد انكشاف الخلاف والعلم بجزئيّتها فلا يرتبطبحكم العقل لا إثباتاً ولا نفياً، بل هو مربوط بالمولى، فالبراءة العقليّة لتقتضي الإجزاء.
في مقتضى البراءة الشرعيّة في المقام
وأمّا الشرعيّة فقبل بيان الحقّ فيها ينبغي تقديم اُمور:
1ـ أنّ مدركها قوله صلىاللهعليهوآله في حديث الرفع: «رفع... ما لا يعلمون»(1).
والمراد بالموصول «كلّ شيء وضعه ورفعه بيد الشارع» سواء كان حكمتكليفيّاً، كالوجوب والحرمة، أو وضعيّاً، كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، فإذكانت جزئيّة السورة للصلاة مشكوكة عندنا يرفعها الشارع بمقتضى هذالحديث.
2ـ أنّه لا تجري أصالة البراءة إلاّ بعد الفحص وعدم وجدان دليل ولو بنحوالإطلاق إثباتاً ونفياً في موردها، فعلى هذا لا تجري لنفي جزئيّة الجزءالمشكوك مثلاً لو كان لقوله سبحانه: «وَأَقِمْ الصَّلاَةَ»(2) إطلاق، لأنّ نفيالجزئيّة حينئذٍ إنّما هو بسبب الإطلاق الذي من الأمارات، فلا تصل النوبة إلىالاُصول التي لا مجال لها إلاّ بعد فقدها. نعم، تجري البراءة لنفي جزئيّة الجزءالمشكوك بناءً على كونه سبحانه في مقام بيان أصل وجوب إقامة الصلاة، من
- (1) كتاب الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
ج2
دون أن يكون في مقام بيان كيفيّتها.
3ـ أنّه لا يمكن أن يُراد بالحديث رفع الأحكام حقيقةً عند الشكّ، وإللاختصّت بالعالمين بها، وهو يستلزم الدور المحال أوّلاً، والتصويب الباطلثانياً، ومخالفته لما ورد من «أنّ للّه تعالى أحكاماً يشترك فيها العالم والجاهل»ثالثاً، فإنّ كلمة الأحكام في هذه الرواية ونحوها عامّة تشمل الأحكامالتكليفيّة والوضعيّة.
فإذا لم يمكن رفع الحكم الواقعي بالنسبة إلى الشاكّ فيه، فأيّ شيء مرفوعبحديث الرفع حينما شككنا في جزئيّة السورة، وفرض كونها جزءً للصلاةواقعاً بعد عدم إمكان رفع جزئيّتها الواقعيّة؟
إن قلت: المرفوع مؤاخذة ما لا يعلمون، كالبراءة العقليّة، فلا تقتضيالإجزاء، كما أنّها لم تكن تقتضيه.
قلت: كلاّ، فإنّك عرفت أنّ حديث الرفع يرفع كلّ أمر وضعه ورفعه بيدالشارع، والجزئيّة للمأمور به كذلك، لكونها حكماً وضعيّاً، فيمكن أن ترفع بهنفس الجزئيّة، ولا ملزم على تقدير مضاف قبل الموصول.
والحاصل: أنّ إجراء البراءة الشرعيّة في المقام من دون أن يترتّبعليها أثر، يستلزم اللغويّة، وتقدير المؤاخذة خلاف ظاهر حديث الرفع،ورفع الجزئيّة الواقعيّة مستلزم للإشكالات الثلاثة المتقدّمة، فماذا ينبغيأن يُقال؟
الذي يخطر ببالي أنّه إذا ورد قوله سبحانه: «أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِإِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»(1) وفرضنا أنّ السنّة دلّت على اعتبار أجزاء وشرائطللصلاة، ثمّ حكم الشارع ـ امتناناً للاُمّة ـ برفع ما لا يعلمون من الأجزاء
(صفحه218)
والشرائط والموانع، كان مقتضى حديث الرفع أنّ السورة وإن كانت جزءًللصلاة حتّى للجاهل بجزئيّتها، إلاّ أنّه مع ذلك يجوز له امتثال قوله تعالى:«أَقِمْ الصَّلاَةَ» بالإتيان بالصلاة الفاقدة لها.
وعلى هذا فمقتضى القاعدة هو الإجزاء، لأنّ الشارع بعد إذنه في امتثالالمأمور به فاقداً للجزء المشكوك لا يحكم بعدم كونه مجزياً بعد انكشافالخلاف.
هذا تمام الكلام في أصالة البراءة.
في مقتضى أصالة التخيير(1)
وأمّا أصالة التخيير فلا ريب في عدم دخولها في النزاع فيما إذا دار الأمر فيهبين وجوب شيء وحرمته، ضرورة أنّه لو فعله ثمّ انكشفت حرمته فلا معنىللقول بالإجزاء ولا بعدمه، وكذلك لو تركه ثمّ انكشف الخلاف وتبيّن وجوبه،لعدم إتيانه بشيء أصلاً حتّى يقال بكونه مجزياً أو غير مجزٍ عن المأمور به.
ولا ريب أيضاً في عدم دخولها فيه فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً أوجزءً للمأمور به وبين كونه مانعاً له وكان المأمور به قابلاً للتكرار في وقته،كالصلاة، ضرورة أنّه مورد الاشتغال لا التخيير، فيجب عليه الإتيان بالصلاةمع ذلك المشكوك تارةً وبدونه اُخرى، ليستيقن بتحقّق المأمور به الواقعي.
- (1) لا يعمّ النزاع أصالة الاشتغال، ضرورة أنّ كشف الخلاف في موردها لا يعقل إلاّ بأن كان المأتيّ بهبمقتضاها غير واجب، لكنّه غير قادح في صحّة العمل أيضاً، فتحقّق المأمور به الواقعي، فلم ينكشفمخالفة المأتي به للواقع كي يبحث في أنّه هل هو مجزٍ عنه أم لا، فلو قلنا في الأقلّ والأكثر الارتباطيّينمثلاً بالاشتغال، وبناءً عليه حكمنا بلزوم إتيان السورة المشكوكة الجزئيّة في الصلاة، ثمّ انكشف أنّها لمتكن جزءً لها، فلا معنى لأن يبحث في أنّ الصلاة المأتيّ بها مع السورة هل هي مجزية أم لا، لأنّ السورةوإن لم تكن جزءً لها في الواقع، إلاّ أنّها غير قادح لصحّتها أيضاً، لأنّ المفروض كون أمرها دائراً بينالجزئيّة وعدمها، لا بين الجزئيّة والمانعيّة كما لا يخفى. منه مدّ ظلّه مع توضيح منّا. م ح ـ ى.
ج2
نعم، لو كان الأمر دائراً بين الشرطيّة أو الجزئيّة وبين المانعيّة ولم يقبلالمأمور به التكرار، كالصوم، يكون داخلاً في محلّ النزاع، لأنّه لو أتى به بدونذلك الشيء المشكوك ثمّ تبيّن كونه جزءً أو شرطاً، أو معه ثمّ تبيّن كونه مانعفالبحث يقع في كونه مجزياً عن الواقع أم لا؟
والحقّ عدم الإجزاء، لأنّ العقل الذي هو حاكم بالتخيير(1) يحكم به فيالدوران بين المحذورين بملاك أنّ المكلّف معذور حينئذٍ لو وقع بسبب فعله أوتركه في مخالفة الواقع، فليس للشارع أن يعاقبه بها، وأمّا وجوب الإعادةوالقضاء بعد انكشاف الخلاف فلا يرتبط بحكم العقل أصلاً، لا إثباتاً ولا نفياً،كما قلنا في البراءة العقليّة، والقاعدة تقتضي وجوبهما، لعدم إتيانه بما كان واجبعليه واقعاً.
قضيّة الاستصحاب في مسألة الإجزاء
وأمّا الاستصحاب فمقتضى القاعدة فيه هو الإجزاء، فإنّه أصل شرعيمحض، ومدركه قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ»(2) المستفاد من الأخبار.
واختلفوا في معناه، فقيل: المراد به تنزيل الشكّ المسبوق باليقين منزلته،وجعل الشاكّ متيقّناً تعبّداً.
وقيل: المراد تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن، يعني الحكم بوجوب ترتيبآثاره عليه.
- (1) وأمّا التخييرات الفقهيّة، كالتخيير بين العتق والصيام والإطعام لمن أفطر في شهر رمضان فهي وإن كانتشرعيّة، إلاّ أنّها تخييرات في الحكم الواقعي، وليست أصلاً في مورد الشكّ فيه كما لا يخفى، فأصالةالتخيير ليست إلاّ أصلاً عقليّاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) ورد هذا المضمون في روايات، راجع وسائل الشيعة ج1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبوابنواقض الوضوء، الحديث 1، و ج 3: 477، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.م ح ـ ى.