ج2
بتحصيل الحاصل.
وكذلك المقدّمة العلميّة، فإنّها عبارة اُخرى عن العمل بالاحتياط لتحصيلالبراءة اليقينيّة بعد العلم بالاشتغال، كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباهالقبلة، وغسل مقدار من العضد للعلم بغسل المرفق في الوضوء، والحاكمبوجوب الاحتياط في موارد العلم بالاشتغال هو العقل لا الشرع.
نعم، ورد في بعض موارد العلم بالاشتغال روايات أيضاً دالّة على وجوبالاحتياط، كما في مسألة اشتباه القبلة(1)، لكنّها محمولة على الإرشاد إلى حكمالعقل.
لا يقال: الكلام في المقام أيضاً في الملازمة العقليّة، فما وجه خروج المقدّمةالعلميّة عنه مع كونها واجبة بحكم العقل؟!
فإنّه يقال: البحث في المقام وإن كان في الملازمة العقليّة، إلاّ أنّ طرفيها همالوجوب الشرعي المولوي، ووجوب المقدّمة العلميّة عقلي أوّلاً، وإرشادي(2)لأجل وجوب الإطاعة ثانياً.
مضافاً(3) إلى أنّ البحث في مقدّمة الواجب، أي فيما له دخل في وجوده، لفي مقدّمة وجوبه أو العلم بوجوده.
والحاصل: أنّ تقسيم المقدّمة بهذا اللحاظ ثلاثي لا رباعي، لرجوع مقدّمةالصحّة إلى مقدّمة الوجود، ولا يدخل في محلّ النزاع إلاّ القسم الأوّل منالأقسام الثلاثة، وهو مقدّمة الوجود فقط.في المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة
- (1) وسائل الشيعة 4: 310، كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 1 و 4 و 5.
- (2) كما أنّ الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى مولوي وإرشادي كذلك تنقسم إليهما الأحكام العقليّة، فالحكمالعقلي المولوي مثل قبح الظلم، والإرشادي مثل لزوم الاحتياط في موارد العلم بالاشتغال، فإنّه ليسمولويّاً، بل إرشادي لأجل العلم بإتيان المأمور به. منه مدّ ظلّه.
- (3) هذا دليل آخر على خروج كلا القسمين ـ أعني مقدّمة الوجوب والعلم ـ عن محلّ النزاع كما لا يخفى.م ح ـ ى.
(صفحه246)
المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة
ومنها: تقسيمها إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر بحسب الوجود بالإضافة إلىذي المقدّمة. وهاهنا إشكال يتوقّف على ذكر مقدّمة، وهي أنّه قرّر في المعقولأنّ العلّة وكلاًّ من أجزائها لابدّ من أن تكون متقدّمة على المعلول رتبةً،ومقارنة له زماناً، بمعنى أنّها لابدّ من أن تكون موجودةً في زمن وجودالمعلول، سواء وجدت معه، أو قبله لكن بقيت إلى حين وجوده(1).
فعلى هذا لا يمكن أن تكون العلّة متأخّرة عن المعلول، ولا متقدّمة عليهزماناً متصرّمةً حين وجوده، فكيف يمكن تصوير المقدّمة المتأخّرة عنالمعلول، والمتقدّمة عليه مع أنّها علّة له؟!
والإشكال يتأكّد بما نرى في عبادات الفقه ومعاملاته نماذج من المقدّمةالمتأخِّرة، كالأغسال الليليّة المستقبلة المعتبرة في صحّة صوم المستحاضة عندبعض، والإجازة في صحّة العقد الفضولي على الكشف الحقيقي(2) كذلك(3)،والمتقدّمة، كالعقد في الوصيّة التمليكيّة، فإنّه يؤثّر في ملكيّة الموصى له بعدموت الموصي العاقد، وكالصرف(4) والسلّم، فإنّه يعتبر في تأثير الأوّل قبضالعوضين، وفي تأثير الثاني قبض الثمن في المجلس، فعقدهما متقدّم على حصولالملكيّة متصرّم حينه، بل كلّ عقد من قبيل المقدّمة المتقدّمة بالنسبة إلى غالبأجزائه، لتصرّمها حين تأثيره. فكيف التوفيق بين هذه الأحكام الشرعيّة
- (1) فإنّ البحث كما عرفت لا يختصّ بالعلّة التامّة كي يشترط المقارنة الزمانيّة في الحدوث، بل في الأعمّمنها ومن الناقصة. منه مدّ ظلّه.
- (2) في مقابل النقل والكشف الحكمي، وهو عبارة عن الحكم بعد الإجازة بترتّب آثار الملكيّة من حينالعقد من دون أن تتحقّق الملكيّة كذلك حقيقةً. م ح ـ ى.
- (4) وهو بيع الأثمان بمثلها. م ح ـ ى.
ج2
وتلك القاعدة العقليّة المتقدِّمة؟(1)
نظر المحقّق العراقي رحمهالله في المقدّمة المتقدّمة والمتأخِّرة
ذهب المحقّق العراقي رحمهالله في حلّ الإشكال إلى أنّ الأحكام الشرعيّة تكليفيّةكانت أم وضعيّة، اُمور اعتباريّة، ويمكن للمعتبر أن يجعل شيئاً شرطاً لشيءمع كونه متقدِّماً عليه زماناً، منعدماً حين وجوده، أو متأخِّراً عنه، ولا تقاسالاعتباريّات بالاُمور الواقعيّة التكوينيّة، لأنّ عنانها بيد المعتبر.
على أنّه يمكن تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه في التكوينيّاتأيضاً، لأنّ المقتضي للمعلول هو حصّة خاصّة من المقتضي لا طبيعيّه، لأنّالنار الخاصّة ـ وهي التي تماسّ الجسم المستعدّ باليبوسة للاحتراق ـ تفعلالاحتراق(2)، لا الحصص الاُخرى، فتلك الخصوصيّة التي بها تخصّصت الحصّةلابدّ لها من محصّل في الخارج، وما به تحصل خصوصيّة الحصّة المقتضيةيسمّى شرطاً، والخصوصيّة المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلك الحصّةحاصلة من إضافتها إلى شيء ما، فذلك الشيء المضاف إليه هو الشرط،والمؤثّر في المعلول هو نفس الحصّة الخاصّة، فالشرط هو طرف الإضافةالمزبورة، وما كان شأنه كذلك جاز أن يتقدّم على ما يضاف إليه أو يتأخّر عنهأو يقترن به(3).
- (1) إن قلت: القاعدة العقليّة مربوطة بالعلّة وأجزائها، لا بمقدّمة الواجب. قلت: مقدّمة الواجب أيضاً إمّا منقبيل العلّة التامّة، أو الناقصة من السبب والشرط وعدم المانع. منه مدّ ظلّه.
- (2) «الإحراق» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (3) ويمكن أن يمثّل له بالعلم بالأزمنة القادمة، مثل العلم بأنّ الشهر القادم هو ذو القعدة، أو بالأزمنة الماضيةوالحوادث التي وقعت فيها، مثل العلم بأنّ يوم الأمس كان يوم الاثنين، وبأنّ موت زيد حدث في السنةالماضية، فالعلم الذي هو من الإضافات موجود بالفعل، ولكن ما يضاف إليه إمّا أمر متقدّم منصرم، أو أمراستقبالي متأخّر. منه مدّ ظلّه.
(صفحه248)
وقس عليه الشرائط الشرعيّة، فإنّ شرطيّة شيء للمأمور به ترجع إلىكون حصّة من الطبيعي متعلّقة للأمر، وهي تحصل بالتقييد، وكما يمكن التقييدبأمر مقارن يمكن بالمتقدّم والمتأخّر، وكذا الحال في شرط التكليف والوضع،فإنّ قيود الوجوب دخيلة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً، ومعنى شرطيّتهفي حال التأخّر ليس إلاّ كونها بحيث تحصل للشيء بالإضافة إليها خصوصيّةبها يكون ذا مصلحة، وهذا كما قد يحصل بإضافة الشيء إلى المقارن يحصلبإضافته إلى المتقدّم والمتأخّر سواء(1)، إنتهى.
نقد كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
ويرد عليه ـ كما قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره ـ أنّ الإضافة التي هيمن إحدى المقولات هي النسبة الحاصلة للشيء بانتسابه إلى غيره، ومنخواصّها كون المتضائفين متكافئين قوّةً وفعلاً، فحينئذٍ فلو كانت تلكالخصوصيّة حاصلة من إضافتها إلى الشيئين فلا معنى لحصول أحد الطرفينأعني الواجب دون الطرف الآخر أعني الشرط، إذ الإضافة الفعليّة تستلزمتحقّق الطرفين بالفعل، فإنّ الاُبوّة والبنوّة الفعليّتين تستلزمان وجود الأبوالابن فعلاً(2)، فالحصّة من طبيعي المقتضي المتّصف بكونه مضافاً فعلاً كيفينتزع منها هذا العنوان مع عدم شيء يصلح أن يكون مضافاً إليه بالفعل.
وإن شئت قلت: إنّ القضايا المبحوث عنها في الفنّ سوى السالبة المحصّلة
- (1) تهذيب الاُصول 1: 297 نقلاً عن بعض أهل التحقيق.
- (2) وأمّا ما ذكرناه من المثال ـ لتقريب ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله إلى الذهن ـ من علمنا بالاُمور الماضيةالمتصرّمة أو المستقبلة المتأخّرة فلا يثبت به دعواه، لأنّ طرف الإضافة إنّما هو المعلوم بالذات، أعنيالصورة الحاصلة من الخارج في الذهن الموجودة في زمن وجود العلم، لا المعلوم بالعرض الذي هوالأمر الحقيقي الخارجي.
فليس لنا إضافة فعليّة أحد طرفيها موجود بالفعل دون طرفها الآخر. منه مدّ ظلّه.
ج2
يجب فيها تحقّق الموضوع في مقام الصدق(1)، فلو فرض كون الصوم مضافبالفعل لزم صدق كون الأغسال مضافاً إليه بالفعل، فينتقض القاعدة المسلّمةمن وجوب وجود الموضوع في الموجبات(2).
ثمّ إنّ الموارد التي توهّم انخرام القاعدة فيها لا تخلو إمّا أن يكون المتقدّم أوالمتأخِّر شرطاً للتكليف أو الوضع أو المأمور به.
في شرائط التكليف المتقدِّمة عليه أو المتأخِّرة عنه
كلام صاحب الكفاية فيه
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : أمّا الأوّل(3) فكون أحدهما شرطاً له ليس إلاّ أنّللحاظه دخلاً في تكليف الآمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بميقارنه ليس إلاّ أنّ لتصوّره دخلاً في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعيإلى الأمر، كذلك المتقدِّم والمتأخِّر.
وبالجملة: حيث كاد الأمر من الأفعال الاختياريّة كان من مباديه بما هوكذلك تصوّر الشيء بأطرافه، ليرغب في طلبه والأمر به، بحيث لولاه لما رغبفيه ولما أراده واختاره، فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف التي لتصوّرهدخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطاً، لأجل دخل لحاظه في حصوله،كان مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدّماً أو متأخّراً، فكما في المقارن يكونلحاظه في الحقيقة شرطاً كان فيهما كذلك، فلا إشكال(4)، إنتهى.
- (1) لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. م ح ـ ى.
- (2) تهذيب الاُصول 1: 299.
- (3) أي شرائط التكليف. م ح ـ ى.