(صفحه288)
ومنها: تقسيمه إلى المنجّز والمعلّق:في الواجب المنجّز والمعلّق
قال في الفصول: وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف وليتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسمّ منجّزاً، وإلى ما يتعلّقوجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّقبالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقّف فعله على مجيءوقته(1)، وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هوأنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل(2)، إنتهى كلامه.
واستشكل على هذا التقسيم تارةً بأنّه مستحيل بحسب مقام الثبوت،واُخرى بعدم لزوم الالتزام به بحسب مقام الإثبات، لعدم ترتّب أثر عليه، وإنكان ممكناً ثبوتاً.
فنذكر جميع ما قيل أو يمكن أن يُقال حول كلام صاحب الفصول فيمقامين:
المقام الأوّل: في امكان الواجب المعلّق واستحالته
ذهب جمع من المحقّقين منهم الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رحمهالله في حاشيةالكفاية إلى استحالة الواجب المعلّق، وقبل البحث حول كلامه ينبغي توجيهالوجدان إلى الأوامر العقلائيّة ليتّضح أنّ تعلّق الإيجاب الفعلي بأمر استقباليهل هو مستحيل وجداناً أو ممكن، فنقول:
إنّا حينما نلاحظ الإرادة التكوينيّة الفاعليّة والتشريعيّة الآمريّة لا نرى منعفي تعلّق الإرادة الفعليّة بمراد استقبالي، ولا في صدور أمر فعلي متعلّق بمأمور
- (1) فالحجّ عند صاحب الفصول واجب مشروط بالنسبة إلى الاستطاعة أو خروج الرفقة، ومعلّق بالنسبة إلىمجيء وقته. م ح ـ ى.
ج2
به استقبالي، ضرورة أنّا قد نريد القيام والقعود وتحريك اليد ونحوها، فيكونالإرادة والمراد كلاهما حاليّين، وقد نريد أن نأتي بالصلاة بعد حلول وقتها، أونسافر غداً، أو نصوم في شهر رمضان الذي يأتي بعد ستّة أشهر مثلاً، فتعلّقتالإرادة الحاليّة بمراد استقبالي، ولا يمكن القول بخلوّ صفحة أنفسنا من الإرادةفي هذه الموارد قبل حلول ظرف المراد، ضرورة أنّا نجد الفرق بيننا وبينالكفّار في أنّهم لا يريدون الصيام في رمضان الآتي ونحن نريده، ولا يمكنالقول بأنّه لا فرق بيننا وبينهم الآن وسيتحقّق الفرق بعد حلول شهر رمضان.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الإرادة الآمريّة، فإنّ المولى تارةً يقول لعبده:«ادخل السوق واشتر اللحم» فتعلّق الوجوب الفعلي بأمر حالي فوري،واُخرى يقول له: «سافر إلى البصرة غداً» فتعلّق الوجوب الحالي بأمراستقبالي، ولا يمكن القول بأنّ وجوب المسافرة أمر استقبالي كنفسها، لأنّا نجدالفرق بينه وبين قوله: «إن جائك زيد فأكرمه» فإنّ الوجدان يقضي بأنّوجوب المسافرة في المثال الأوّل حالي ووجوب الإكرام في المثال الثانياستقبالي مقيّد بمجيء زيد.
وبالجملة: قول المولى لعبده: «سافر إلى البصرة غداً» ليس من قبيلالواجب المشروط، بل من قبيل الواجب المطلق الذي وجوبه حالي وواجبهاستقبالي، وهذا هو الذي نعبّر عنه بالواجب المعلّق وليس بمستحيل عندالوجدان والعقلاء.
كلام المحقّق الاصفهاني في الواجب المعلّق
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق الاصفهاني ذهب في الحاشية إلى استحالته،وعمّم البحث فقال بامتناع تعلّق الإرادة ـ سواء كانت تكوينيّة أو تشريعيّة
(صفحه290)
بأمر استقبالي وتكلّم في كلّ منهما ببحث مستقلّ، فقال في الإرادة التكوينيّة:
إنّ الإرادة عبارة عن «الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد».
توضيح ذلك: أنّ للنفس منازل ومراتب، ويسمّى كلّ مرتبة باسم خاصّ،فيعبّر عن إحدى درجاتها بالشوق، وهو يتّصف بالشدّة والضعف والنقصوالكمال، فإذا كان الشيء المراد الذي تعلّق به الشوق مبتلى بمانع لا يقدر المريدعلى إزالته يقف الشوق ولا يتأكّد ولا يرتقي إلى الدرجة التي يُقال لها الإرادة،وإن لم يكن للمراد مانع أصلاً، أو كان ولكنّ المريد يقدر على إزالته يرتقيالشوق شيئاً فشيئاً إلى درجة يقال لها الإرادة والقصد.
ثمّ إذا وصل الشوق إلى هذا الحدّ يؤثّر في قوّة اُخرى نفسانيّة يعبّر عنهبالقوّة العاملة، وهي قوّة منبثّة في جميع الأعضاء والجوارح، فالشوق المؤكّدالذي يحرّك القوّة العاملة نحو المراد هو الذي يسمّى بالإرادة، فلا يمكن القولبتحقّقها من دون تحرّك العضلات نحوه، وهذا الذي التزم به من أجاز تعلّقالإرادة التكوينيّة بأمر استقبالي، فمن أراد فرضاً اليوم أن يسافر غداً فأينتأثير القوّة الشوقيّة الآن في القوّة العاملة وأين تأثّر العضلات وتحرّكها نحوالمراد في اليوم؟!
وبالجملة: الإرادة هي التي تحرّك العضلات نحو المراد فوراً، ولأجله قالوا:هي الجزء الأخير للعلّة التامّة، فإذا تحقّقت ولم يتحقّق المراد فهل هذا إلانفكاك العلّة التامّة عن المعلول؟!
إن قلت: لعلّ المعلول هاهنا مقيّد بالتأخّر ذاتاً، فليس المعلول في المثالالمتقدّم مطلق «المسافرة» بل «المسافرة في الغد»، فإذا كان كذلك فلابدّ من أنيتحقّق متأخّراً عن علّته وإلاّ فلم يكن معلولاً.
قلت: فساد هذا الكلام أوضح من سابقه، لأنّ دخل التأخّر في ذات المعلول
ج2
يكون بمعنى اشتمال ذاته على الانفكاك عن علّته، وهو ينافي القاعدة العقليّةالحاكمة بعدم إمكان انفكاكه عنها.
إن قلت: يمكن أن يكون الزمان المتأخّر شرطاً لتأثير الإرادة.
قلت: إنّ حضور الوقت إن كان شرطاً في بلوغ الشوق حدّ النصابوخروجه من النقص إلى الكمال فهو عين ما رمناه من أنّ حقيقة الإرادة لتتحقّق إلاّ حين إمكان انبعاث القوّة المحرِّكة للعضلات، وإن كان شرطاً فيتأثير الشوق البالغ حدّ النصاب الموجود من أوّل الأمر فهو غير معقول، لأنّبلوغ القوّة الباعثة في بعثها إلى حدّ النصاب مع عدم انبعاث القوّة العاملةتناقض بيّن، بداهة عدم انفكاك البعث الفعلي عن الانبعاث، وعدم تصوّرحركة النفس من منزل إلى منزل مع بقائها في المنزل الأوّل.
توضيحه: أنّ الجزء الأخير من العلّة لحركة القوّة العاملة لابدّ من أن يكونأمراً موجوداً في مرتبة النفس، وذلك لا يمكن أن يكون طبيعة الشوق، لإمكانتعلّقها بما لا يقع فعلاً، بل بالمحال، فلابدّ أن تكون مرتبة خاصّة من الشوق أوصفة اُخرى بعد الشوق بحيث لا تتعلّق تلك المرتبة أو تلك الصفة بما ينفكّ عنانبعاث القوّة العاملة فعلاً، فضلاً عن المحال.
فالقول بتحقّق الشوق المؤكّد الذي نعبّر عنه بالإرادة قبل ظرف المراديستلزم إمّا عدم كون الإرادة هي الجزء الأخير للعلّة التامّة أو انفكاك المعلولعن العلّة.
مضافاً إلى أنّ الإرادة تفارق سائر الأسباب، فإنّ الأسباب الخارجيّة ربميكون لوجودها مقام ولتأثيرها مقام آخر، فيتصوّر اشتراط تأثيرها بشيءدون وجودها(1)، بخلاف الإرادة، فإنّها حيث تكون عبارة عن القوّة الشوقيّة
- (1) كما أنّ تأثير النار في الإحراق مشروط بمجاورتها للمادّة المحترقة دون وجودها. م ح ـ ى.
(صفحه292)
الواصلة إلى مرحلة الكمال والتأكّد لأثّرت بمجرّد وجودها في القوّة العاملةالمنبثّة في العضلات والجوارح، ولا يمكن القول بأنّ محرّكيّتها للعضلاتمشروطة بزمان متأخّر عن أصل وجودها.
والحاصل: أنّ القوّة الشوقيّة التي نعبّر عنها بالإرادة إمّا موجودة مؤثّرة فيالقوّة العاملة بالفعل، وإمّا غير موجودة، وأمّا كونها حاصلة متوقّفة في تأثيرهعلى حصول شرط متأخّر خارج عنها فلا يعقل أصلاً، لعدم ارتباط القوّةالشوقيّة بالخارج لكي تتوقّف في تأثيرها على أمر خارجي، بل هي مرتبطةبالقوّة العاملة التي هي أيضاً من درجات النفس.
وأمّا ما في المتن من لزوم تعلّق الإرادة بأمر استقبالي إذا كان المراد ذمقدّمات كثيرة فإنّ إرادة مقدّماته قطعاً منبعثة عن إرادة ذيها(1).
فتوضيح الحال فيه: أنّ الشوق إلى المقدّمة بما هي مقدّمة لابدّ من انبعاثهمن الشوق إلى ذيها، لكنّ الشوق إلى ذيها لمّا لم يمكن وصوله إلى حدّ يتحرّكالقوّة العاملة به ـ لتوقّف الفعل المراد على مقدّمات ـ فلا محالة يقف في مرتبتهإلى أن يمكن الوصول، وهو بعد طيّ المقدّمات، فالشوق بالمقدّمة لا مانع منبلوغه حدّ الباعثيّة الفعليّة، بخلاف الشوق إلى ذيها، وهذا حال كلّ متقدّمبالنسبة إلى المتأخّر، فإنّ الشوق شيئاً فشيئاً يصير قصداً وإرادة، فكما أنّ ذاتالمقدّمة في مرتبة الوجود متقدّمة على وجود ذيها، كذلك العلّة القريبة لحركةالعضلات نحوها، مثل هيجان القوّة العاملة، وما قبله المسمّى بالقصد والإرادة،وما هو المسلّم في باب التبعيّة تبعيّة الشوق للشوق لا تبعيّة الجزء الأخير منالعلّة، فإنّه محال، وإلاّ لزم إمّا انفكاك العلّة عن المعلول، أو تقدّم المعلول على