إن قلت: لو كان الوقت قيداً لوجوب الحجّ مثلاً، ومع ذلك يجب علىالمكلّف قبله تحصيل المقدّمات التي لا يمكن تحصيلها بعده لكان الأمر بالنسبةإلى مثل الاستطاعة أيضاً كذلك، فلابدّ من أن يجب عليه قبل الاستطاعةتحصيل ما لا يمكن تحصيله بعدها.
قلت: كلاّ، فإنّ بين الوقت والاستطاعة فرقاً واضحاً، وهو أنّ الوقت أمرمقطوع الوقوع، فلابدّ له من تحصيل المقدّمات ليقدر على الحجّ الذي يتحقّقزمانه قطعاً، بخلاف الاستطاعة التي قد تتحقّق وقد لا تتحقّق.
صاحب الفصول من تقسيم الواجب إلى المنجّز والمعلّق ممكن، لكن لا يلائمهمقام الإثبات، لعدم انحصار التخلّص عن إشكال وجوب المقدّمات المفوّتةقبل وجوب ذيها بالالتزام بالواجب المعلّق كما توهّمه صاحب الفصول رحمهالله .
ملاك تمييز ما يجب تحصيله من القيود وما لا يجب
قد عرفت أنّ الشيخ رحمهالله ذهب إلى أنّ القيود راجعة إلى المادّة ويستحيلرجوعها إلى الهيئة. فاعلم أيضاً أنّ القيود ـ كما أشرنا سابقاً ـ على قسمين:
1ـ القيود التي لا يقدر المكلّف على تحصيلها، سواء لا تكون تحت اختيارأحد أصلاً، كالوقت، أو تكون تحت اختيار غيره، كما إذا قال المولى: «إنجائك زيد فأكرمه»، فلا إشكال في عدم وجوب تحصيل هذا القسم علىالمكلّف، ضرورة عدم تعلّق التكليف بغير المقدور.
2ـ القيود التي يقدر على تحصيلها، وهذه القيود أيضاً على قسمين: ما يجبتحصيله على المكلّف، كالطهارة للصلاة، وما لا يجب تحصيله عليه،كالاستطاعة للحجّ، والتمييز بينهما إنّما هو بكيفيّة لسان الدليل.
هذا على رأي الشيخ رحمهالله .
وأمّا على المشهور المنصور فيمكن أن يرجع القيد إلى الهيئة أو إلى المادّة،وواضح أنّ ما هو راجع إلى الهيئة لا يجب تحصيله، ووجوب ذي المقدّمة أيضغير ثابت غالباً قبل تحقّق هذا القيد، ضرورة أنّ أكثر القيود اُخذت بنحوالشرط المقارن، فإنّ الشرط المتأخّر الذي يقتضي تحقّق الوجوب قبل تحقّقشرطه نادر جدّاً.
ويتعاكس الأمر في قيود المادّة، فإنّ أكثر قيود المادّة يجب تحصيلها علىالمكلّف، ووجوب ذي المقدّمة أيضاً ثابت قبل تحقّقها كما لا يخفى.
ج2
دوران أمر القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادّة
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ القيد إن علم رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادّة إمّبنفسالجملة أو بقرائن اُخرى فلابحث ولاإشكال، إنّماالإشكال فيمواردالشكّ.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
فذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ المرجع هو الاُصول العمليّة، إذ لترجيح لأحدهما في البين(1).
ولا يخفى أنّ الأصل الجاري هاهنا هو استصحاب عدم وجوب تحصيلالقيد، فإنّ تحصيله لم يكن واجباً على المكلّف قبل أمر المولى، وفي المرتبةالمتأخّرة عن الاستصحاب تجري أصالة البراءة من وجوب تحصيله أيضاً،وهذان الأصلان بعينهما يجريان بالنسبة إلى وجوب ذي المقدّمة قبل حصولقيده أيضاً.
فنتيجة الاُصول العمليّة هي عين نتيجة رجوع القيد إلى الهيئة، لكنّهمسبّبة عن جريان الاُصول لا عن رجوع القيد إلى الهيئة.
ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
وذهب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله عند دوران القيد بين الرجوع إلى الهيئةوالمادّة إلى ترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادّة.
وقبل بيان ما استدلّ به الشيخ رحمهالله لإثبات دعواه لابدّ لنا من توجيه كلامه،فإنّ في كلامه تناقضاً بحسب الظاهر، حيث ذهب إلى امتناع رجوع القيود إلى
(صفحه308)
الهيئة من جانب، وإلى ترجيح تقييد المادّة عند دوران أمر القيد بين رجوعهإليها وإلى الهيئة من جانب آخر.
فقال المشكيني رحمهالله في حاشية الكفاية: مراده من الهيئة أيضاً المادّة، لكنّه أرادبقيود الهيئة ما لا يجب تحصيله على المكلّف من قيود المادّة، وبقيود المادّةما يجب تحصيله عليه منها(1).
وفيه: أنّ الهيئة تذكر دائماً في مقابل المادّة لا بمعناها، على أنّه لا يلائم الدليلالأوّل الذي ذكره الشيخ رحمهالله لإثبات دعواه، من أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاقالمادّة بدلي، والإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي، فيرجع القيد عندالدوران بين تقييد أحدهما إلى الإطلاق البدلي لكونه أضعف، ضرورة أنّتفسير الهيئة في كلامه بالمادّة مستلزم لالتزامه بتحقّق نوعين من الإطلاق فيشيء واحد وهو المادّة.
فلابدّ من توجيه كلام الشيخ بأنّه مبنيّ على مذهب المشهور القائل برجوعبعض القيود إلى الهيئة وبعضها إلى المادّة.
وكيف كان، فقد استدلّ الشيخ رحمهالله بوجهين:
الأوّل: ما أشرنا إليه من أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليّاً كشمول العامّلأفراده، فإنّ وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التييمكن أن يكون تقديراً له، وإطلاق المادّة يكون بدليّاً غير شامل لفردين فيحالة واحدة، فيرجع القيد عند الدوران إلى الإطلاق البدلي الذي يكونأضعف من الإطلاق الشمولي(2).
البحث حول ما أفاده الشيخ رحمهالله في المقام
- (1) كفاية الاُصول المحشّى 1: 531.
- (2) مطارح الأنظار 1: 252، وكفاية الاُصول: 133.
ج2
وأجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عنه بأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليّبخلاف المادّة، إلاّ أنّه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها(1)، لأنّه أيضاً كانبالإطلاق ومقدّمات الحكمة، غاية الأمر أنّها تارةً تقتضي العموم الشموليواُخرى البدلي كما ربما تقتضي التعيين أحياناً(2) كما لا يخفى، وترجيح عمومالعامّ على إطلاق المطلق(3) إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع لا لكونه شموليّبخلاف المطلق، فإنّه بالحكمة، فيكون العامّ أظهر منه فيقدّم عليه، فلو فرضأنّهما في ذلك على العكس فكان عامّ بالوضع دلّ على العموم البدلي ومطلقبإطلاقه دلّ على الشمول لكان العامّ يقدّم بلا كلام(4)، إنتهى كلامه.
وهذا الجواب مبنيّ على قبول انقسام المطلق إلى قسمين أو أقسام ثلاثة.
والحقّ أنّه قسم واحد، لعدم دلالته على الشمول ولا على البدليّة.
توضيح ذلك: أنّا نفهم بعد تماميّة مقدّمات الحكمة أنّ ما جاء في كلام المولىهو تمام مراده، ولا فرق في ذلك بين الموارد، فإنّا إذا تأمّلنا في قوله تعالى:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»(5) لا نرى فيه لفظاً صالحاً لأن يدلّ على الشمول، فإنّ كلمة«أحلّ» تكون بمعنى «أمضى» و«اللّه» فاعله، و«البيع» مركّب من اسم الجنسالدالّ على الماهيّة والطبيعة، واللام الدالّة على تعريف الجنس، وليست اللاملاستغراق أفراد البيع وشمولها وإلاّ لكانت هذه الآية مثالاً للعموم، كما قيل فيالمفرد المحلّى باللام، فحينئذٍ لا تكون مثالاً لمحلّ النزاع.
والحاصل: أنّا لم نجد في هذه الآية الشريفة التي هي مثال واضح للإطلاق
- (1) لعدم تسلّم كونه أقوى منه. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
- (2) تقدّم أنّ إطلاق الصيغة عند صاحب الكفاية يقتضي النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة عند الدوران بينها وبينالغيريّة والتخييريّة والكفائيّة. م ح ـ ى.
- (3) فيما إذا دار أمر دليل ثالث بين كونه مخصّصاً للعامّ أو مقيّداً للمطلق. م ح ـ ى.