(صفحه312)
لأصالة الإطلاق، ضرورة أنّه لا إطلاق حتّى يكون التقييد مخالفاً له، وذلكلأنّ الظهور المنعقد للمطلق مترتّب على تحقّق مقدّمات الحكمة، ومنها عدمإقامة قرينة على التقييد حين التكلّم، فمع إقامتها لم تتوفّر مقدّمات الحكمة فلمينعقد للكلام ظهور في الإطلاق كي يكون التقييد خلاف الأصل، ألاترى أنّهلا يمكن الالتزام بكون تقييد الرقبة بقيد الإيمان في «أعتق رقبة مؤمنة» أمرمخالفاً للأصل.
لا يقال: ما ذكرت مسلّم في «أعتق رقبة مؤمنة» لوضوح رجوع القيد إلىالمادّة، بخلاف المقام الذي يدور أمر القيد فيه بين رجوعه إلى المادّة وإلىالهيئة،فإن كان راجعاً إلى المادّة فلا يوجب خلاف الأصل، لما ذكرت من عدم تماميّةمقدّمات الحكمة كي ينعقد ظهور للكلام في الإطلاق، وأمّا لو كان راجعاً إلىالهيئة فحينئذٍ وإن لم يكن تقييد الهيئة أيضاً خلاف الأصل لنفس ما ذكر، إلأنّ استلزامه لبطلان محلّ الإطلاق في المادّة خلاف الأصل، لأنّ ما يوجب عدمتماميّة مقدّمات الحكمة إنّما هو التقييد حيث إنّ عدمه أحد المقدّمات، وأمّالعمل المشارك للتقييد في الأثر فلا.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ رجوع القيد إلى الهيئة يكون بالمطابقة قرينة على تقييدالهيئة، وبالملازمة على تقييد المادّة، ومن مقدّمات الحكمة عدم إقامة المتكلّمقرينة على التقييد، ولا فرق في ذلك بين القرينة المباشرة وغير المباشرة،فرجوعه إلى الهيئة كما يوجب عدم انعقاد ظهور لها في الإطلاق كذلك يوجبعدم انعقاد ظهور للمادّة فيه أيضاً.
هذا كلّه فيما إذا كان التقييد بمتّصل كما هو ظاهر كلام الشيخ رحمهالله .
وأمّا إذا كان بمنفصل فالحقّ ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله من ترجيح رجوعه إلىالمادّة، حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة كم
ج2
قال صاحب الكفاية(1).
وأجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عمّا استدلّ به الشيخ رحمهالله ثانياً بقوله:
إنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل، إلاّ أنّ العمل الذي يوجب عدم جريانمقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماتها لا يكون على خلاف الأصل أصلاً، إذمعه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييدالذي يكون على خلاف الأصل.
وبالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلاّ كونه خلاف الظهورالمنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة، ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد لههناك ظهور كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاقالمطلق مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً(2).
إنتهى محلّ الحاجة من كلامه رحمهالله .
ولا يخفى أنّ قوله في ذيل كلامه: «نعم، إذا كان التقييد بمنفصل(3) إلخ» قرينةعلى أنّ الصدر مربوط بالقيد المتّصل، وعلى هذا فالتفكيك بين التقييد والعملالذي يشترك معه في الأثر بقبول كون الأوّل خلاف الأصل وإنكار ذلك فيالثاني غير صحيح، لما عرفت من أنّ القيد إذا كان متّصلاً فلا يكون التقييد ولالعمل الذي يشترك معه في الأثر خلاف الأصل أصلاً، لانتفاء مقدّمات الحكمةفي مورد كليهما، بل انتفائها في التقييد أقوى منه في العمل المشارك معه، حيثإنّ الإتيان بالقيد قرينة مباشرة على التقييد في مورد التقييد وغير مباشرة فيمورد العمل المشارك معه كما تقدّم آنفاً، فعدم تحقّق خلاف الأصل في التقييدأقوى منه في العمل المشارك معه.
(صفحه314)
وبالجملة: لا يصحّ التفكيك بين التقييد وبين العمل المشارك معه في الأثرأصلاً، سواء أراد التقييد بمتّصل أو بمنفصل(1)، ضرورة عدم كون واحد منهمخلاف الأصل في المتّصل وكون كليهما خلاف الأصل في المنفصل كما عرفت،ولعلّه للتنبيه على هذا الإشكال الوارد على صدر كلامه أمر بالتأمّل في الذيل،لا لما ذكره المشكيني رحمهالله ولا لما نقله عن اُستاذه المحقّق القوچاني قدسسره في حاشيةالكفاية(2).
هذا تمام الكلام في الواجب المنجّز والمعلّق.
الواجب النفسي والغيري
ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري:في الواجب النفسي والغيري
كلام صاحب الكفاية في تعريفهم
اعلم أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله نقل تعريفاً لهما ثمّ ناقش فيه ثمّ اختار تعريفآخر، فلابدّ لنا من ملاحظة مجموع ما أفاده لكي يتبيّن الحقّ، فقال في بدايةكلامه:
«ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري، وحيث كان طلب شيء وإيجابهلا يكاد يكون بلا داعٍ فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكادالتوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري، وإلاّ فهو نفسي، سواء كانالداعي محبوبيّة الواجب بنفسه، كالمعرفة(3) باللّه، أو محبوبيّته بما له من فائدة
- (1) هذا مع قطع النظر عن ذيل كلامه، أعني قوله: «نعم، إذا كان التقييد بمنفصل إلخ» وإلاّ فقد عرفت أنّه قرينةعلى إرادته من ا لصدر التقييد بالمتّصل. منه مدّ ظلّه.
- (2) راجع كفاية الاُصول المحشّى 1: 535؛ ليتبيّن لك ما أفاده المحقّقان المشكيني والقوچاني في وجه الأمربالتأمّل. م ح ـ ى.
- (3) فإنّها هي الغاية القصوى، كما يؤيّده تفسير العبادة في قوله تعالى ـ من سورة الذاريات، الآية 56 ـ : «وَمَخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» بالمعرفة في بعض الأخبار. منه مدّ ظلّه.
ج2
مترتّبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليّات»(1).
ثمّ أورد عليه بقوله: «هذا لكنّه لا يخفى أنّ الداعي لو كان هو محبوبيّتهكذلك، أي بما له من الفائدة المترتّبة عليه كان الواجب في الحقيقة واجباً غيريّاً،فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازماً لما دعى إلى إيجاب ذي الفائدة.
فإن قلت: نعم، وإن كان وجودها محبوباً لزوماً، إلاّ أنّه حيث كانت منالخواصّ المترتّبة على الأفعال التي ليست داخلةً تحت قدرة المكلّف لما كاديتعلّق بها الإيجاب.
قلت: بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة علىالسبب قدرة على المسبّب، وهو واضح، وإلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهيروالتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات مورداً لحكممن الأحكام التكليفيّة».
ثمّ عرّفهما بتعريف آخر بقوله: «فالأولى أن يقال: إنّ الأثر المترتّب عليهوإن كان لازماً إلاّ أنّ ذا الأثر لمّا كان معنوناً بعنوان حسن يستقلّ العقل(2)بمدح فاعله بل وذمّ تاركه صار متعلّقاً للإيجاب بما هو كذلك، ولا ينافيه كونهمقدّمة لأمر مطلوب واقعاً، بخلاف الواجب الغيري، لتمحّض وجوبه في أنّهلكونه مقدّمة لواجب نفسي، وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوانحسن في نفسه إلاّ أنّه لا دخل له في إيجابه الغيري، ولعلّه مراد من فسّرهما بماُمر به لنفسه وما اُمر به لأجل غيره، فلا يتوجّه عليه الاعتراض بأنّ جلّالواجبات لو لا الكلّ يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة، فإنّ المطلوب
- (1) مطارح الأنظار 1: 329.
- (2) لو علم بذلك العنوان الحسن. منه «مدّ ظلّه» توضيحاً لكلام صاحب الكفاية رحمهالله .
(صفحه316)
النفسي قلَّ ما يوجد في الأوامر، فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هيخارجة عن حقيقتها»(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده صاحب الكفاية قدسسره
وفيه أوّلاً: أنّه لو سلّم وجود عنوان حسن غير معلوم لنا في العباداتالنفسيّة غير الآثار المترتّبة عليها فلا نسلّم وجوده في كثير من الواجباتالنفسيّة التوصّليّة، كأداء الدَّين ودفن الميّت، ضرورة أنّا نعلم أنّ وجوب أداءالدّين إنّما هو لأجل وصول ذي الحقّ إلى حقّه وصيرورته مسروراً بذلكونحو ذلك، ووجوب دفن الميّت إنّما هو لئلاّ يتأذّى الناس من ريحه بعد تغيّرهوغير ذلك من الآثار والمصالح، ونعلم عدم تحقّق أمر آخر فيهما غير تلكالآثار والمصالح كي يكون عنواناً حسناً داعياً إلى إيجابهما.
وثانياً: كيف يمكن القول بعدم دخل الفوائد المترتّبة على الواجبات النفسيّةفي إيجابها مع تصريحه تعالى بأنّ علّة وجوب الصيام هي الوصول إلى التقوىفي قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ»(2)، وبأنّ علّة وجوب الحجّ هي مشاهدة منافعهم وذكر اسم اللّه فيأيّام معلومات في قوله خطاباً لإبراهيم عليهالسلام : «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَرِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواسْمَ اللّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ»(3)، بل جاء في الأخبار علل كثير من الواجبات،ودوّن الشيخ الصدوق رحمهالله في ذلك كتاباً سمّاه «علل الشرائع» ذكر فيه عللالواجبات مستندةً بالروايات، فهل يمكن لمن هو عارف بالكتاب والسنّة أن