ج2
أم لا؟
وفي الصورة الثانية فما هو مقتضى الاُصول العمليّة؟
فهنا مقامان من البحث:
المقام الأوّل: فيما يقتضيه الدليل اللفظي
كلام صاحب الكفاية فيما يقتضيه إطلاق الهيئة
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : التحقيق أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّهمإلاّ أنّ إطلاقها يقتضي كونه نفسيّاً، فإنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيهعليه على المتكلِّم الحكيم(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ الواجب ينقسم إلى نفسي وغيري، فالقسم الأوّل لو كان مطلقبلا قيد أصلاً لكان متّحداً مع المقسم، ولابدّ في كلّ تقسيم من كون كلّ قسممشتملاً على المقسم وشيء زائد كي لا يتّحدا.
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
ويفهم من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله أنّ بعض العلماء السابقين علىصاحب الكفاية أيضاً كانوا يستدلّون بإطلاق الهيئة لإثبات النفسيّة عنددوران أمر الوجوب بينها وبين الغيريّة، حيث قال:
لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشكّ المذكور بعد كون مفاده
(صفحه320)
الأفراد(1) التي لا يعقل فيها التقييد.
نعم، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق، لكنّهبمراحل عن الواقع، إذ لا شكّ في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد منالأمر، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب، فإنّ الفعليصير مراداً بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها، لا بواسطة مفهومها(2)،وذلك واضح لا يكاد يعتريه ريب(3).
إنتهى كلامه.
نقد ما أفاده الشيخ رحمهالله من قبل صاحب الكفاية
وأورد عليه المحقّق الخراساني رحمهالله بوجهين:
1ـ أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف وما يلحقها عامّ كالوضع.
2ـ سلّمنا أنّ وضع الحروف عامّ وما وضعت له خاصّ، لكنّ لهيئة الأمرخصوصيّةً تقتضي أن تكون موضوعة لمفهوم الطلب لا لأفراده، وهي أنّ مفادالصيغة لو كان فرد الطلب الحقيقي لما صحّ إنشائه(4) بها، ضرورة أنّ الطلبالحقيقي الذي هو الإرادة الحقيقيّة القائمة بنفس المولى من الصفات الخارجيّةالناشئة من الأسباب الخاصّة التي تسمّى بمبادئ الإرادة، لا من صيغة الأمر(5).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله ردّاً على ما أفاده الشيخ الأعظم.
- (1) أي أفراد الطلب ومصاديقه، لكون ما وضع له الحروف وما يلحقها ـ كالهيئات ـ خاصّاً، وإن كان وضعهعامّاً. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام الشيخ رحمهالله .
- (2) فهيئة «افعل» وضعت لمصاديق حقيقة الإرادة لا لمصاديق مفهومها. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام الشيخالأعظم رحمهالله .
- (3) مطارح الأنظار 1: 333.
- (4) اعلم أنّ للطلب وجوداً إنشائيّاً عند المحقّق الخراساني رحمهالله في مقابل الوجود الحقيقي والذهني، ووجودهالإنشائي يتحقّق بصيغة «افعل» ومادّة الطلب ونحوهما. منه مدّ ظلّه.
ج2
نقد كلامهما رحمهماالله
والحقّ أنّ مفاد الصيغة لا يرتبط بأفراد الطلب كما قال الشيخ رحمهالله ولا بمفهومهكما قال صاحب الكفاية قدسسره ، لما عرفت في المبحث الأوّل من مباحث صيغةالأمر من أنّ مفادها هو البعث والتحريك الاعتباري الذي نعبّر عنهبالوجوب، لا مفهوم الطلب ولا مصداقه.
على أنّا لا نسلّم ما ذكره الشيخ رحمهالله من عدم إمكان تقييد الجزئي، ضرورةأنّ التقييد الأفرادي وإن لم يتطرّق إليه، إلاّ أنّ تقييده الأحوالي بمكان منالإمكان، ألاترى أنّ قولنا: «أكرم زيداً الجائي» صحيح لا غبار عليه؟
بل أكثر التقييدات راجعة إلى المعاني الحرفيّة كما كان يقوله كراراً سيّدنالاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره في مجلس الدرس، ألاترى أنّا حينما نقول: «ضربزيد عمراً يوم الجمعة» فكلمة «يوم الجمعة» قيد لصدور الضرب من زيدووقوعه على عمرو، والصدور والوقوع كلاهما معنيان حرفيّان، لقيامهمبطرفين: أحدهما هو «الضرب» والآخر هو «زيد» في الأوّل، و«عمرو» فيالثاني.
وبالجملة: أكثر القيود راجعة إلى المعاني الحرفيّة مع أنّ المشهور والمختارهو جزئيّة الموضوع له في الحروف(1)، فكيف لا يعقل تقييد الجزئيّات كمزعمه الشيخ الأنصاري رحمهالله ؟!
كلام المحقّق النائيني في الدوران بين النفسيّة والغيريّة
- (1) لكن بين المشهور وما اختاره الاُستاذ ««مدّ ظلّه»» اختلاف في كيفيّة وضع الحروف للمعاني الجزئيّة،كما تقدم في مبحث وضع الحروف. م ح ـ ى.
(صفحه322)
ثمّ إنّ للمحقّق النائيني رحمهالله تقريباً آخر للتمسّك بإطلاق الصيغة لإثباتنفسيّة الوجوب في موارد الشكّ، وقبل بيانه ذكر مقدّمتين:
الاُولى: أنّ وجوب الواجب الغيري مترشّح عن وجوب الغير، فوجوبهمعلول وجوبه، وبعبارة اُخرى وجوب الواجب الغيري مشروط(1) بوجوبالغير، كما أنّ وجود الغير يكون مشروطاً بالواجب الغيري، فيكون وجوبالغير من المقدّمات الوجوبيّة للواجب الغيري، ووجود الواجب الغيري منالمقدّمات الوجوديّة لذلك الغير، مثلاً يكون وجوب الوضوء مشروطبوجوب الصلاة، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء، فالوضوءبالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادّة، ووجوب الصلاة يكون من قيودالهيئة بالنسبة إلى الوضوء، وحينئذٍ يرجع الشكّ في كون الوجوب غيريّاً إلىشكّين:
أ ـ الشكّ في تقييد وجوبه بوجوب الغير، ب ـ الشكّ في تقييد مادّة الغير به.
الثانية: لا يعقل الشكّ في نفسيّة وجوب شيء وغيريّته إلاّ إذا كان لنواجب آخر نفسي، ضرورة أنّه لو لم يكن هاهنا إلاّ واجب واحد فكونهنفسيّاً مقطوع، لما عرفت في المقدّمة الاُولى من أنّ للواجب الغيريخصوصيّتين:
1ـ أنّ وجوبه مشروط بوجوب الغير، 2ـ أنّ وجود الغير مشروطبوجوده، فكيف يمكن أن يكون لنا واجب غيري مع كونه وحيداً ليس بجنبهواجب آخر نفسي؟
وبعبارة اُخرى: وجوب الواجب الغيري إنّما هو لأجل التوصّل به إلى
- (1) فالواجب الغيري قسم من الواجب المشروط، والفرق بينه وبين سائر الواجبات المشروطة أنّ وجوبالواجب الغيري مقيّد بوجوب أمر آخر، كوجوب الطهارة المشروط بوجوب الصلاة، لكن وجوب سائرالمشروطات مقيّد بوجود شيء آخر، كوجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة. منه مدّ ظلّه.
ج2
واجب آخر لا يمكن التوصّل إليه إلاّ به، فلا يمكن أن يكون وجوب شيءغيريّاً إلاّ إذا كان بجنبه واجب آخر نفسي.
ثمّ قال ما ملخّصه: إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه إن كان هناك إطلاق في كلطرفي الغير والواجب الغيري، كما إذا كان دليل الصلاة مطلقاً لم يأخذ الوضوءقيداً لها، وكذا كان دليل إيجاب الوضوء مطلقاً لم يقيّد وجوبه بالصلاة(1)، كما فيقوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا...»(2) حيث إنّه قيّد وجوبالوضوء بالقيام إلى الصلاة فلا إشكال في صحّة التمسّك بكلّ من الإطلاقين،وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي للوضوء، وعدم كونه قيداً وجوديّللصلاة، فإنّ إطلاق دليل الوضوء يقتضي الأوّل، وإطلاق دليل الصلاة يقتضيالثاني.
بل لو كان لأحدهما إطلاق يكفي في المقصود من إثبات الوجوب النفسي،لأنّ مثبتات الاُصول اللفظيّة حجّة، فلو فرض أنّه لم يكن لدليل الوضوءإطلاق وكان لدليل الصلاة إطلاق، فمقتضى إطلاق دليلها هو عدم تقييد مادّتهبالوضوء، ويلزمه عدم تقييد وجوب الوضوء بها(3)، لما عرفت من الملازمةبين الأمرين، وكذا الحال لو انعكس الأمر وكان لدليل الوضوء إطلاق دوندليل الصلاة.
وبالجملة: الأصل اللفظي يقتضي النفسيّة عند الشكّ فيها، سواء كان لكلّمن الدليلين إطلاق أو كان لأحدهما إطلاق، ولا تصل النوبة إلى الاُصولالعمليّة، إلاّ إذا فقد الإطلاق من الجانبين(4).
- (1) «بوجوب الصلاة» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (3) «بوجوبها» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (4) فوائد الاُصول 1 و 2: 220.