(صفحه322)
ثمّ إنّ للمحقّق النائيني رحمهالله تقريباً آخر للتمسّك بإطلاق الصيغة لإثباتنفسيّة الوجوب في موارد الشكّ، وقبل بيانه ذكر مقدّمتين:
الاُولى: أنّ وجوب الواجب الغيري مترشّح عن وجوب الغير، فوجوبهمعلول وجوبه، وبعبارة اُخرى وجوب الواجب الغيري مشروط(1) بوجوبالغير، كما أنّ وجود الغير يكون مشروطاً بالواجب الغيري، فيكون وجوبالغير من المقدّمات الوجوبيّة للواجب الغيري، ووجود الواجب الغيري منالمقدّمات الوجوديّة لذلك الغير، مثلاً يكون وجوب الوضوء مشروطبوجوب الصلاة، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء، فالوضوءبالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادّة، ووجوب الصلاة يكون من قيودالهيئة بالنسبة إلى الوضوء، وحينئذٍ يرجع الشكّ في كون الوجوب غيريّاً إلىشكّين:
أ ـ الشكّ في تقييد وجوبه بوجوب الغير، ب ـ الشكّ في تقييد مادّة الغير به.
الثانية: لا يعقل الشكّ في نفسيّة وجوب شيء وغيريّته إلاّ إذا كان لنواجب آخر نفسي، ضرورة أنّه لو لم يكن هاهنا إلاّ واجب واحد فكونهنفسيّاً مقطوع، لما عرفت في المقدّمة الاُولى من أنّ للواجب الغيريخصوصيّتين:
1ـ أنّ وجوبه مشروط بوجوب الغير، 2ـ أنّ وجود الغير مشروطبوجوده، فكيف يمكن أن يكون لنا واجب غيري مع كونه وحيداً ليس بجنبهواجب آخر نفسي؟
وبعبارة اُخرى: وجوب الواجب الغيري إنّما هو لأجل التوصّل به إلى
- (1) فالواجب الغيري قسم من الواجب المشروط، والفرق بينه وبين سائر الواجبات المشروطة أنّ وجوبالواجب الغيري مقيّد بوجوب أمر آخر، كوجوب الطهارة المشروط بوجوب الصلاة، لكن وجوب سائرالمشروطات مقيّد بوجود شيء آخر، كوجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة. منه مدّ ظلّه.
ج2
واجب آخر لا يمكن التوصّل إليه إلاّ به، فلا يمكن أن يكون وجوب شيءغيريّاً إلاّ إذا كان بجنبه واجب آخر نفسي.
ثمّ قال ما ملخّصه: إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه إن كان هناك إطلاق في كلطرفي الغير والواجب الغيري، كما إذا كان دليل الصلاة مطلقاً لم يأخذ الوضوءقيداً لها، وكذا كان دليل إيجاب الوضوء مطلقاً لم يقيّد وجوبه بالصلاة(1)، كما فيقوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا...»(2) حيث إنّه قيّد وجوبالوضوء بالقيام إلى الصلاة فلا إشكال في صحّة التمسّك بكلّ من الإطلاقين،وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي للوضوء، وعدم كونه قيداً وجوديّللصلاة، فإنّ إطلاق دليل الوضوء يقتضي الأوّل، وإطلاق دليل الصلاة يقتضيالثاني.
بل لو كان لأحدهما إطلاق يكفي في المقصود من إثبات الوجوب النفسي،لأنّ مثبتات الاُصول اللفظيّة حجّة، فلو فرض أنّه لم يكن لدليل الوضوءإطلاق وكان لدليل الصلاة إطلاق، فمقتضى إطلاق دليلها هو عدم تقييد مادّتهبالوضوء، ويلزمه عدم تقييد وجوب الوضوء بها(3)، لما عرفت من الملازمةبين الأمرين، وكذا الحال لو انعكس الأمر وكان لدليل الوضوء إطلاق دوندليل الصلاة.
وبالجملة: الأصل اللفظي يقتضي النفسيّة عند الشكّ فيها، سواء كان لكلّمن الدليلين إطلاق أو كان لأحدهما إطلاق، ولا تصل النوبة إلى الاُصولالعمليّة، إلاّ إذا فقد الإطلاق من الجانبين(4).
- (1) «بوجوب الصلاة» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (3) «بوجوبها» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (4) فوائد الاُصول 1 و 2: 220.
(صفحه324)
هذا ما أفاده المحقّق النائيني في المقام.
نقد كلامه رحمهالله
وهو وإن كان في نفسه كلاماً دقيقاً، إلاّ أنّه يرد عليه:
أوّلاً: أنّا لا نسلّم كون وجوب الواجب الغيري معلولاً عن وجوب الغير،فإنّ البعث والتحريك الاعتباري المتعلّق بالمقدّمة الذي هو عبارة اُخرى عنوجوبها معلول عن الإرادة المتعلّقة بالبعث والتحريك إليها، لا عن الوجوبالمتعلّق بذيها، والإرادة المتعلّقة بها معلولة لمباديها لا للإرادة المتعلّقة بذيها.
ويؤيّده أنّ الفاعل ربما يريد مثلاً الكون على السطح حال كونه غافلاً عنتوقّفه على نصب السلّم كي تتحقّق إرادة اُخرى منه إليه أيضاً، والآمر ربميأمر بالكون على السطح مع كونه غافلاً حينئذٍ من توقّفه على نصب السلّم،فليس بينهما علّيّة ومعلوليّة، وإلاّ لتحقّق المعلول بمجرّد تحقّق العلّة.
وثانياً: أنّا لا نسلّم أن يكون وجود الواجب النفسي مقيّداً ومشروطبوجود الواجب الغيري كي يصحّ نفيه في موارد الشكّ، بالتمسّك بالإطلاق،ضرورة أنّ وجود ذي المقدّمة متوقّف على وجودها، لا أنّه مقيّد به، فإنّالتوقّف غير التقيّد، ألاترى أنّك لو سألت العبد عقيب أمر المولى إيّاه بالكونعلى السطح بقولك: «بماذا اُمِرْت؟» لقال: بالكون على السطح، ولا يقول:بالكون عليه المقيّد بنصب السلّم.
نعم، في بعض الموارد يكون ذو المقدّمة مشروطاً بها، كما أنّ الصلاةمشروطة بالوضوء، وهذا يستفاد من قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلاّ بطهور»(1)ونحوه، إلاّ أنّه ليس أمراً كلّيّاً جارياً في جميع الواجبات الغيريّة، ضرورة أنّ
- (1) وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
ج2
صرف المقدّميّة لا تقتضي أكثر من توقّف ذي المقدّمة عليها.
ولا نسلّم أيضاً تقيّد وجوب الواجب الغيري بوجوب ذلك الغير، ضرورةأنّ اشتراطه به كان مبنيّاً على العلّيّة والمعلوليّة، وقد عرفت بطلانهما، مضافإلى أنّ العلّيّة لا تقتضي تقيّد المعلول بالعلّة، لأنّ المعلول وإن كان متوقّفاً علىالعلّة بمعنى أنّه لا يتحقّق قبل تحقّقها، إلاّ أنّه لا يمكن أن يكون مقيّداً ومشروطبها، فإنّ المشروطيّة على فرض تحقّقها تكون صفة للمعلول، واتّصافه بها إمّفي حال وجوده، وهو يستلزم أن يتحقّق المعلول قبل مشروطيّته بالعلّة،ضرورة لزوم تقدّم الموصوف على وصفه، مع أنّ الأمر بالعكس، فإنّمشروطيّته قبل تحقّقه، أو في حال عدمه، وهو باطل بالبداهة، لأنّ المعدومكيف يتّصف بصفة مع أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له؟!
والحاصل: أنّ كلا التقييدين الذين ذكرهما المحقّق النائيني رحمهالله في الواجبالغيري ـ أعني تقييد وجوبه بوجوب الغير، وتقييد وجود الغير بوجوده باطلان، فلا يمكن له التمسّك بأصالة الإطلاق لرفع التقييد وإثبات النفسيّة فيموارد الشكّ، وإن كان متمكّناً من ذلك لو ثبت تقييد واحد أو تقييدان.
وبالجملة: ليس لنا أصل لفظي يدلّ على النفسيّة.
نعم، يمكن إثباتها بما ذكره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره من أنّ العقلوالعقلاء يحكمان بأنّ البعث المتعلّق بشيء حجّة على العبد، ولا يجوز لهالتقاعد عن امتثاله باحتمال كونه مقدّمة لغيره إذا فرض سقوط أمره(1).
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
المقام الثاني: فيما تقتضيه الاُصول العمليّة
- (1) أي سقوط أمر الغير، وهذا مثل أن تشكّ الحائض في أنّ وجوب الوضوء هل هو غيري، فلا يجب عليهإتيانه، لسقوط أمر الصلاة بالنسبة إليها، أو نفسي يجب عليها إتيانه، لعدم ارتباطه بالصلاة. م ح ـ ى.
(صفحه326)
البحث حول كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
قال المحقّق النائيني رحمهالله : للشكّ في الواجب الغيري ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: ما إذا علم بوجوب كلّ من الغير والشيء الذي دار أمروجوبه بين النفسيّة والغيريّة، من دون أن يكون وجوب الغير مشروطبشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كلّ من الوضوء والصلاة،وشكّ في كون وجوب الوضوء غيريّاً أو نفسيّاً، ففي هذا القسم يرجع الشكّإلى الشكّ في تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون مجرى البراءة، لكونه منصغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فتصحّ الصلاة ولو تحقّقت بدونالوضوء، فمن هذه الجهة تكون النتيجة نفسيّة الوضوء، وإن لم يحكم بكونهواجباً نفسيّاً من جهة ترتّب آثار الواجب النفسي عليه، لعدم حجّيّة مثبتاتالاُصول العمليّة(1).
وفيه أوّلاً: منع كونه من مصاديق دوران الأمر بين الأقلّ والأكثرالارتباطيّين، لما عرفت من منع كون الواجب الغيري شرطاً للواجب النفسيدائماً، وإن كان المثال المذكور كذلك.
وثانياً: مسألة الأقلّ والأكثر من حيث كونها مجرى البراءة أو الاشتغالخلافيّة بينهم، فذهب الشيخ رحمهالله إلى الأوّل، والمحقّق الخراساني رحمهالله إلى الثاني،وفصّل المحقّق النائيني رحمهالله هناك بين كون المشكوك جزءً أو شرطاً، فقالبالبراءة في الأوّل، وبالاحتياط في الثاني، فكيف يمكن له القول بجريان البراءةهنا مع أنّ المقام من قبيل الشكّ في الشرطيّة.
القسم الثاني: الفرض بحاله، لكن كان وجوب الواجب النفسي مشروط
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 222.