ج2
استحقاق الثواب.
وجوابه واضح بناءً على ما اخترناه من أنّ الثواب والعقاب من المجعولات،وكما يمكن جعلهما للواجب النفسي يمكن أيضاً للواجب الغيري، لأنّ الجعل بيدالمولى الجاعل.
الثاني: أنّ الأوامر الغيريّة توصّليّة لا يعتبر في سقوطها قصد التعبّد، مع أنّالطهارات الثلاث يعتبر فيها قصده إجماعاً، فما هو منشأ عباديّتها؟
إن قلت: منشأ عباديّتها تعلّق أمر استحبابي نفسي بها سوى الأمر الغيريالوجوبي.
ففيه أوّلاً: أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في خصوص الوضوء والغسل، حيث ثبتاستحبابهما شرعاً، وأمّا التيمّم فلا دليل على استحبابه في نفسه، فإذن يبقىالإشكال بالإضافة إليه بحاله، وثانياً: لا يمكن أن يكون شيء واحد محكومبحكمين، سيّما أنّهما مختلفان من وجهين، حيث إنّ أحدهما وجوبي غيري،والآخر استحبابي نفسي، وثالثاً: أنّ الإتيان بالطهارات الثلاث بداعي أمرهالغيري صحيح، مع أنّه لو كان منشأ عباديّتها ذلك الأمر النفسي لم تقعصحيحةً.
وإن قلت: منشأ عباديّتها هو الأمر الغيري.
ففيه: أنّه مستلزم للدور المحال، ضرورة أنّ ما تعلّق به الوجوب الغيريبناءً على تحقّق الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها إنّما هو المقدّمةبالحمل الشائع أعني الوضوء العبادي مثلاً، فالوجوب متأخّر عن العباديّة،لتأخّر الحكم عن موضوعه، والعباديّة متأخّرة عن الوجوب، لكونها ناشئةعنه فرضاً.
وأجابوا عن هذا الإشكال بوجوه عديدة:
(صفحه334)
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في حلّ الإشكال
الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الشيخ ضياء الدِّين العراقي رحمهالله من أنّ الأمرالمتعلّق بمركّب يتبعّض بتعداد أجزاء المأمور به ويتعلّق كلّ بعض من أبعاضذلك الأمر بجزء من أجزاء المأمور به التي منها قصد القربة في العبادات، فالأمرالغيري المتعلّق بالوضوء مثلاً ينبسط على أجزائه من غسل الوجه واليدينومسح الرأس والرجلين وقصد القربة، بحيث يتعلّق كلّ بعض منه بواحد منهذه الأجزاء الخمسة، ومفاد ذلك البعض المتعلّق بقصد القربة أنّه يجب الإتيانبالأجزاء الأربعة الاُولى بقصد امتثال ما تعلّق بها من الأمر(1).
نقد ما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ انبساط الأمر المتعلّق بالمركّب وتبعّضه بتعداد أجزائهأمر غير مسلّم، بل لابدّ من البحث حوله في محلّه ـ أنّه مستلزم لأن يكون أمرواحد بالنسبة إلى بعض أبعاضه توصّليّاً، وهو البعض المتعلّق بقصد القربة،ضرورة أنّه لا يمكن أن يكون الأمر داعياً إلى نفسه، بإلزامه المكلّف علىالإتيان بالمأمور به بقصد امتثال نفسه، وبالنسبة إلى سائر الأبعاض تعبّديّاً،وما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين.
أضف إلى ذلك أنّ الأمر الغيري ـ الذي عرفت أنّه لا يوجب تحقّق الداعيفي نفس العبد إلى إطاعة المولى ولا يترتّب على موافقته ثواب ولا على مخالفتهعقاب(2) ويكون وجوده وعدمه سيّين ـ لايمكن أنيكون منشأًلعباديّة العبادة.
- (1) نهاية الأفكار 1 و 2: 329.
- (2) عدم ترتّب الثواب والعقاب على موافقة الأمر الغيري ومخالفته مبنيّ على كونهما بالاستحقاق، لبالجعل الذى اختاره الاُستاذ«مدّ ظلّه». م ح ـ ى.
ج2
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في حلّ الإشكال
الثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ عباديّة المقدّمات العباديّةليست ناشئة من الأمر الوجوبي الغيري ولا من أمر استحبابي نفسي، بل منالأمر الوجوبي النفسي الذي تعلّق بذي المقدّمة، بيان ذلك أنّ الأمر المتعلّقبالصلاة مثلاً ينبسط على أجزائها وشرائطها، فكما أنّ بعضاً منه يتعلّقبالركوع، فيصير به عباديّاً كذلك يتعلّق بعض آخر منه بالوضوء، فيصير هوأيضاً عباديّاً بذلك البعض المتعلّق به من الأمر، فكما أنّ الركوع اكتسبالعباديّة من الأمر الصلاتي، كذلك الوضوء اكتسبها منه بعدما كان الأمرالصلاتي عباديّاً، وكذلك الحال في الغسل والتيمّم(1).
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفيه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم كون تبعّض الأمر الواحد المتعلّقبالمركّب أمراً مسلّماً ـ أنّ التبعّض على فرض تسليمه إنّما هو بالنسبة إلىالأجزاء فقط، ضرورة أنّ الأمر إنّما هو يتعلّق بماهيّة المأمور به، والماهيّةتتشكّل من خصوص الأجزاء، وأمّا الشرائط فهي خارجة عنها، كما قال فيالمنظومة: «تقيّد جزء وقيد خارجي»(2)، والأمر لا يمكن أن يدعو إلاّ إلىمتعلّقه.
إن قلت: نفس القيد والشرط وإن كان خارجاً عن ماهيّة المأمور به، إلاّ أنّالتقيّد والاشتراط جزء لها، كما صرّح به الناظم في الشعر المتقدِّم، فكما أنّ
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 228.
- (2) شرح المنظومة، قسم الفلسفة: 27.
(صفحه336)
الركوع جزء للصلاة كذلك تقيّد الصلاة بالوضوء أيضاً جزء لها.
قلت: هذا يستلزم عباديّة التقيّد لا عباديّة نفس القيد التي نحن بصددها.على أنّ انبساط الأمر بالنسبة إلى الشرائط كانبساطه بالنسبة إلى الأجزاءيستلزم أن يكون جميع شرائط الصلاة عباديّة، مع أنّ طهارة الثوب والبدنوستر العورة وحتّى استقبال القبلة ليست اُموراً عباديّة.
إن قلت: القاعدة وإن كانت تقتضي عباديّتها إلاّ أنّ الدليل الخارجي قامعلى عدم عباديّتها وعدم اعتبار قصد القربة فيها.
قلت: هذا يستلزم أن لا يكون الأمر المتعلّق بالصلاة تعبّديّاً ولا توصّليّاً،بل بالنسبة إلى الأجزاء وبعض الشرائط ـ كالطهارات الثلاث ـ يكون تعبّديّوبالنسبة إلى سائر الشرائط ـ كطهارة الثوب والبدن وستر العورة واستقبالالقبلة ـ توصّليّاً، وهذا مخالف لذوق المتشرّعة كما لا يخفى.
أضف إلى ذلك ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره من أنّ عباديّةالأجزاء ليست ناشئة من الأوامر الضمنيّة فضلاً عن عباديّة الشرائط،ضرورة أنّ الأمر لا يصلح أن يكون منشأً لعباديّة شيء إلاّ إذا كان ذلكالشيء تمام الغرض وموجباً للقرب، مع أنّ الركوع مثلاً ليس مقرّباً ما لم ينضمّإليه سائر الأجزاء.
إن قلت: فما هو المصحّح لعباديّة كلّ واحد من الأجزاء؟
قلت: منشأ عباديّتها نفس الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب، لا أبعاضه، بحيثتكون عباديّة كلّ منها ناشئة عن البعض المتعلّق به من الأمر.
الثالث: أنّ الأمر النفسي الوجوبي وإن لم يتعلّق إلاّ بالأجزاء، فلا يتبعّضإلاّ بالنسبة إليها، لكنّه مع ذلك يدعو إلى الشرائط أيضاً، فبُعد الداعويّة أوسعمن بُعد التعلّق.
ج2
لكن عباديّة الأجزاء لاتحتاج إلى دليل خارجي سوى تعلّق هذا الأمرالعبادي بها، بخلاف الشرائط، فكلّ شرط دلّ دليل على لزوم الإتيان بهبداعي الأمر المتعلّق بالأجزاء ـ كالطهارات الثلاث ـ فهو عبادي، وكلّ شرطلم يكن كذلك ـ كطهارة الثوب والبدن وستر العورة واستقبال القبلة ـ لم يكنعباديّاً.
وفيه: أنّ الحقّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله كراراً من أنّ الأمر لا يكاديدعو إلاّ إلى متعلّقه، فكيف يمكن أن لا يتعلّق بالشرائط، ومع ذلك يكونداعياً إليها؟!
بيان ما هو الحقّ في منشأ عباديّة الطهارات الثلاث
والتحقيق في الجواب أن يقال: عباديّة العبادات لا تحتاج إلى الأمر، وتوهّماحتياجها إليه ناشٍ من تفسير قصد القربة المعتبر فيها بقصد امتثال الأمر،لكنّ الكلام في هذا التفسير، إذ يحتمل أن يكون المراد به الإتيان بالعمل بقصدكونه مقرّباً إلى المولى، بل هذا ظاهر كلمة «قصد القربة»، كما يحتمل أيضاً أنيكون بمعنى إتيان العمل بداعي حسنه، أو بداعي كونه ذا مصلحة واقعيّة،وعلى هذه الاحتمالات الثلاث لا يتوقّف قصد القربة المعتبر في العبادات علىكونها متعلّقة للأمر، كما هو واضح.
إن قلت: فمن أين نفهم عباديّة العبادات لو لا الأمر؟
قلت: عباديّة العمل عبارة عن كونه مقرّباً للعبد إلى مولاه المعبود، ومقرّبيّةبعض الأعمال واضحة لا تحتاج إلى البيان، كالسجود، فإنّ جميع الناسيعرفون أنّه عبادة، سواء كان للّه أو للوثن، وما لم تكن عباديّته واضحة ـ وهوأكثرها ـ فلا طريق إليها إلاّ بيان الشارع، فكلّ عمل قام الدليل الشرعي على