ج2
لكن عباديّة الأجزاء لاتحتاج إلى دليل خارجي سوى تعلّق هذا الأمرالعبادي بها، بخلاف الشرائط، فكلّ شرط دلّ دليل على لزوم الإتيان بهبداعي الأمر المتعلّق بالأجزاء ـ كالطهارات الثلاث ـ فهو عبادي، وكلّ شرطلم يكن كذلك ـ كطهارة الثوب والبدن وستر العورة واستقبال القبلة ـ لم يكنعباديّاً.
وفيه: أنّ الحقّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله كراراً من أنّ الأمر لا يكاديدعو إلاّ إلى متعلّقه، فكيف يمكن أن لا يتعلّق بالشرائط، ومع ذلك يكونداعياً إليها؟!
بيان ما هو الحقّ في منشأ عباديّة الطهارات الثلاث
والتحقيق في الجواب أن يقال: عباديّة العبادات لا تحتاج إلى الأمر، وتوهّماحتياجها إليه ناشٍ من تفسير قصد القربة المعتبر فيها بقصد امتثال الأمر،لكنّ الكلام في هذا التفسير، إذ يحتمل أن يكون المراد به الإتيان بالعمل بقصدكونه مقرّباً إلى المولى، بل هذا ظاهر كلمة «قصد القربة»، كما يحتمل أيضاً أنيكون بمعنى إتيان العمل بداعي حسنه، أو بداعي كونه ذا مصلحة واقعيّة،وعلى هذه الاحتمالات الثلاث لا يتوقّف قصد القربة المعتبر في العبادات علىكونها متعلّقة للأمر، كما هو واضح.
إن قلت: فمن أين نفهم عباديّة العبادات لو لا الأمر؟
قلت: عباديّة العمل عبارة عن كونه مقرّباً للعبد إلى مولاه المعبود، ومقرّبيّةبعض الأعمال واضحة لا تحتاج إلى البيان، كالسجود، فإنّ جميع الناسيعرفون أنّه عبادة، سواء كان للّه أو للوثن، وما لم تكن عباديّته واضحة ـ وهوأكثرها ـ فلا طريق إليها إلاّ بيان الشارع، فكلّ عمل قام الدليل الشرعي على
(صفحه338)
عباديّته ومقرّبيّته فهو عبادة، والطهارات الثلاث من هذا القبيل، لقيام الإجماعوسيرة المتشرّعة المتّصلة بزمن المعصوم عليهالسلام على كونها عبادة ومقرّبة إليهتعالى.
والحاصل: أنّا لا نفهم عباديّة العمل إلاّ بالدليل الدالّ على كونه مقرّباً إلىاللّه، ولو لا الدليل لما فهمناها، ولو كان العمل متعلّقاً للأمر، ضرورة أنّ الأمركما يتعلّق بالاُمور العباديّة يتعلّق أيضاً بغيرها، كالواجبات التوصّليّة.
نعم، لا يكفي في كون العمل القربي مقرّباً الإتيان به بأيّ داعٍ كان، بل لابدّفيه من الإتيان به بقصد القربة.
فالعمل لا يتحقّق عبادةً إلاّ إذا كان أمراً قربيّاً، ويؤتى به بقصد التقرّب.
ثمّ لا يخفى أنّ كون عمل صالحاً للعباديّة لا يوجب أن يكون عبادةً مطلقاً،أي في كلّ زمان أو مكان أو حال، بل قد يكون كذلك، كالوضوء، فإنّه عملمستحبّ مقرّب إلى اللّه تعالى في جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال، حتّى فيمإذا كان تجديديّاً، وقد يكون عبادةً في أزمنة خاصّة أو لأمكنة أو أحوالكذلك، كالغسل الذي لا يكون مستحبّاً ومقرّباً إلاّ في بعض الأزمنة(1) أولبعض الأمكنة(2) والأحوال(3)، وقد لا يكون عبادةً إلاّ نادراً، كالتيمّم الذي ليستحبّ إلاّ في مورد أو موردين، حيث إنّ التيمّم بدل الوضوء مستحبّللمحدث الذي يريد النوم بدون الوضوء ولو كان واجداً للماء.
بل الوضوء أيضاً لا يكون عبادةً حين الحرج، بناءً على ما هو الحقّ من أنّقاعدة نفي الحرج عزيمة لا رخصة، فالوضوء الحرجي باطل غير مقرّب إليهتعالى. بل الصلاة التي هي في رأس العبادات قد لا تكون عبادةً، كصلاة
- (1) كغسل الجمعة وليلة القدر. م ح ـ ى.
- (2) كغسل الدخول في الحرم ومسجد الحرام والكعبة. م ح ـ ى.
- (3) كغسل الإحرام والطواف والزيارة. م ح ـ ى.
ج2
الحائض التي هي محرّمة عليها، فهي مبعّدة إيّاها عن اللّه تعالى، فضلاً من أنتكون مقرّبة.
وبالجملة: إنّا لا نحتاج لتصحيح عباديّة عمل إلى تعلّق الأمر به، بل إذا كانأمراً صالحاً للتقرّب به إلى اللّه تعالى وأتينا به بهذا القصد وقع عبادة،والطهارات الثلاث كذلك، فلا ضير في صدق العبادة على التيمّم إذا صدربقصد القربة، وإن لم يكن مأموراً به بأمر استحبابي نفسي.
وكذا لا ضير في كون الوضوء والغسل مستحبّين نفسيّين حال كونهمواجبين غيريّين ـ بناءً على الملازمة ـ لأنّ متعلّق الحكمين مختلف، فإنّالاستحباب النفسي تعلّق بذاتهما، والوجوب الغيري بهما بوصف كونهمعبادتين مستحبّتين، فذات الغسلتين والمسحتين في الوضوء مستحبّة نفسيّة،والوضوء العبادي المستحبّ واجب غيري، فلم يتعلّق حكمان مختلفان منوجهين بشيء واحد كما زعمه المستشكل.
فلا إشكال في صحّة الوضوء مثلاً إذا صدر بقصد القربة.
وأمّا الإتيان به بقصد أمره الغيري كما إذا نوى: «أتوضّأ لأجل الصلاة» فهويتصوّر على وجهين: أحدهما: أن يكون منضمّاً إلى قصد القربة، فلا إشكال ولريب في صحّته إلاّ أنّه لا ينفع المستشكل، ضرورة أنّه مشتمل على ركنيالعبادة، حيث إنّ الوضوء صالح للعباديّة وأتى به بقصد التقرّب به إلى اللّه،والثاني: أن لا يكون منضمّاً إليه، بل أتى به لأجل الصلاة فقط، لا بقصد أمرهالاستحبابي النفسي ولا بقصد التقرّب، فلا نتسلّم صحّة الوضوء في هذهالصورة، بل هو باطل، لفقده الركن الثاني من ركني العبادة، وهو إتيان العملالصالح للعباديّة بقصد التقرّب أو بقصد امتثال أمره العبادي(1) فيما إذا كان له
- (1) إن قلت: كيف يكفي في تحقّق العبادة إتيانها بقصد امتثال أمره العبادي مع ما تقدّم من تفسير قصد القربةبإتيان العمل بقصد كونه مقرّباً إلى المولى.
قلت: ما تقدّم في تفسير قصد القربة ليس معنى منحصراً، بل المراد أنّ قصد القربة لا يتوقّف على الأمر،لا أنّ العمل باطل إذا تحقّق بقصد امتثال أمره فيما إذا كان له أمر عبادي. م ح ـ ى.
(صفحه340)
أمر كذلك.
فما يصحّ لا ينفعه، وما ينفعه لا يصحّ.
إن قلت: كيف يمكن القول ببطلان وضوئه في الصورة الثانية مع أنّه قصدالوضوء الذي تتوقّف عليه الصلاة، وهو لا يكون إلاّ عبادةً؟ ضرورة أنّالصلاة لا تتوقّف إلاّ على الوضوء الذي هو عبادة، فلابدّ من أن يكون وضوئهفي هذه الصورة أيضاً صحيحاً، حيث إنّه قصد الإتيان بنفس ما هو مقدّمةللصلاة.
قلت: لا يكفي في صحّته قصد الإتيان بالوضوء الذي تتوقّف عليه الصلاةبعد فرض كونه فاقداً لأحد ركني العبادة، ألا ترى أنّ الرياء يبطل الصلاة مثلمع أنّ المرائي لا يريد الإتيان بصورة الصلاة، بل يريد نفس الصلاة المأمور بهفي الشرع، إلاّ أنّه أخلّ بقصد القربة بالإتيان بها رياءً، فيتّضح لنا أنّ العمل إنكان فاقداً لأحد ركني العبادة لا يقع عبادة صحيحة.
الواجب الأصلي والتبعي(1)
ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي:في الواجب الأصلي والتبعي
- (1) اعلم أنّ صاحب الكفاية رحمهالله ذكر هذا التقسيم في ذيل الأمر الرابع الآتي، وتبعه في ذلك شيخنا الاُستاذالمحاضر ««مدّ ظلّه»» حيث قال عند الشروع في الأمر الرابع:
بقي من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي والتبعي، لكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله ذكره بعد الأمرالرابع، إمّا لنسيان أو لأمر آخر لا نعلمه، وحيث إنّ ترتيب بحثنا هو الترتيب الذي في الكفاية فنحن أيضنؤخّر البحث حول هذا التقسيم إلى ما بعد الأمر الرابع.
لكنّي رأيت المصلحة في ذكره في هذا الأمر الثالث الذي عقد لتقسيمات الواجب، لا في ذيل الأمر الرابعالذي عقد لبيان دائرة وجوب المقدّمة أو دائرة المقدّمة الواجبة سعة وضيقا. م ح ـ ى.
ج2
واختلفوا في كون هذا التقسيم بحسب مقام الثبوت أو الإثبات.
كلام صاحب الفصول رحمهالله فيه
ذهب صاحب الفصول رحمهالله إلى أنّه بلحاظ مقام الدلالة والإثبات، فالأصليما فهم وجوبه من دليل مستقلّ، أي غير لازم لدليل آخر، والتبعي بخلافه،وهو ما فهم وجوبه تبعاً لدليل آخر، فكلّ واحد من قسمي التقسيم السابقـ أعني الواجب النفسي والغيري ـ يمكن أن يكون أصليّاً ويمكن أن يكونتبعيّاً، فالواجب النفسي الأصلي كالصلاة التي يكون وجوبها لنفسها، لا لأجلشيء آخر، ويكون وجوبها مستفاداً من خطاب «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»، والنفسيالتبعي كوجوب إكرام زيد عند مجيئه المستفاد من قول المولى: «إن لم يجئكزيد فلا يجب إكرامه» بناءً على دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم، والغيريالأصلي كوجوب الوضوء المستفاد من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَقُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(1)، والغيريالتبعي كوجوب المقدّمة المستفاد من الملازمة العقليّة بينه وبين وجوب ذيهمن دون أن يذكر في دليل مستقلّ(2).
هذا ما أفاده صاحب الفصول مع توضيح منّا.
كلام صاحب الكفاية في المقام
وذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ هذا التقسيم بلحاظ الواقع ومقامالثبوت، فالواجب الأصلي ما يكون متعلّقاً للإرادة المستقلّة، للإلتفات إليه بم
- (2) الفصول الغرويّة: 82 .